التشكيك في الإجماع مظهر من مظاهر تشرذم الأمة
د. الناجي لمين. أستاذ في دار الحديث الحسنية. الرباط
مِن نِعَمِ الله على المسلمين أن خصَّهم بأصل الإجماع، فالعقل لا يوجب عصمة الأمة، ولكن ثبتت لها العصمة بالشرع.
ومِن نعم الله أيضا على هذه الأمة أن علماءها حصروا المسائل المتفق عليها في تلك التي انعقد عليها الإجماع في عهد الصحابة والتابعين، وجعلوا انعقاده متعذرا بعد ذلك، لاتساع رقعة أرض الإسلام، وتعذر إحصاء المجتهدين، وتمييز المجتهد من غيره، فأغلقوا بذلك الباب على المُغرضين والظالمين الذين يستغلون ذلك لمواجهة الخصوم لا سيما في السياسة. بل أغلقوا الباب على الاجتهاد المطلق وحصروه في الاجتهاد داخل كل مذهب، وبذلك سدوا الطريق على الدخلاء، وحُصِر خلاف الأمة في الفقهيات في أربعة مذاهب..
فإذا ثبت الإجماع الذي انعقد في عهد السلف بنقل أئمة الدين العدول صار ملزما للجميع، ولا يجوز خرقه. ولم يخالف في هذا إمام من أئمة المسلمين حتى جاء الشوكاني فشكك فيه، ولكن عندما يحتاجه يحتج به. وهو تناقض صارخ.
ومن فطنة الإمام الأشعري وأصحابه أنهم جمعوا أهل السنة على أصول العقائد من خلال إجماع مَن سلف، وحصَروا التبديع في مخالفة النصوص المجمع عليها، وأجازوا الخلاف فيما عدا ذلك. ومن تتبع نقاش أهل السنة مع المعتزلة ظهر له هذا الأصل في التبديع جليا.
فهذا الإجماع إن ثبت، ورواه الأئمة من غير نكير ولا اعتراض من أحد منهم فلا يجوز حرقه عند الجميع.
ولكن جاء هذا الزمان، وصار الإجماع من أضعف الأدلة، لا يحتج به المتشرع إلا عند الحاجة إليه لمواجهة خصمه. والمؤسف أن هذا التشكيك لا تختص به طائفة دون طائفة: السلفية والتجديديون، والمتمشعرة والمتصوفة في ذلك سواء، “إلا من رحم الله وقليل ما هم”.
أما الذي يفرق بين المعلوم من الدين بالضرورة وغيره كالأستاذ أبي زهرة والشيخ أحمد شاكر فلا يدري ما يقول، لأن الأصل إذا شُكِّك فيه انسحب التشكيك على جميع أفراده. ولذلك قال الرازي الجصاص في كتابه الفصول ما معناه: اشتراط لائحة للمجمعين في مسائل الإجماع لم يتحقق حتى في المعلوم من الدين بالضرورة. راجع كلامه في مبحث الإجماع.
الفرق الوحيد هو أن المعلوم من الدين بالضرورة يعرفه العام والخاص، عبرَ العصور، والذي دونه يعرفه العلماء فقط. وهذا الفرق شائع في جميع علوم الدنيا. والله أعلم وأحكم.