طارق حنيش
مما يلزم التنبيه عليه من وجوه الزلل المستكنّة في طيّات مناهج طائفة من الناظرين من أهل الكلام، تعويلهم في مقام دفع التعارض بين الأدلّة على مجرّد التلازم العقلي المجرد، واعتمادهم فيه على الصورة الصورية المحضة، دون أن يُلحقوا نظرهم بما يوجبه الاستقراء التامّ لمقاصد الشريعة الكلية، ومجاري سننها التعبدية والتكوينية.
هذا المسلك – وإن استظهروا به التحصّن بصور الأقيسة وانتظام الحدود – فليس يسلم من مؤاخذة الاعتراض، إذا جُعل مناطًا قاطعًا في الترجيح بين المتعارِضَين، إذ الحكم بضعف دليل أو برجحان معارضه، لا يُستفاد من جهة التلازم الذهني بين الملزوم ولازمه، ولا من مجرد انتظام المقدّمات في صورة ما تُسمّيه الفلاسفة بـ”القياس التام”، فإن تلك الصورية قد تُوهم تمامًا في العقل، ولا يُسلّم لها تمام في النقل.
ووجه البيان في ذلك: أن التعارض المبحوث فيه ها هنا ليس من قبيل التعارض الصناعي بين قضايا العقل المجرد، بل هو تعارض دلائل الشريعة، وهي – على مقتضى الوضع العربي، ومقتضى البيان النبوي، ومراعاة مقامات الخطاب – جارية في أساليب متشعّبة، تتفاوت بحسب الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص، والحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين. فلا جرم كان النظر فيها مركبًا، يفتقر إلى فقه في لسان العرب، وفقه في سنن الشارع، وذوق في مواقع الخطاب، وملكة في الجمع والترجيح، لا إلى مجرّد إحكام آلة المنطق وإتقان صور التلازم.
فكان اللائق بمن رام رفع التعارض الظاهر بين الدليلين أن لا يقتصر نظره على مجرد قوة اللزوم في أحدهما أو ظهوره في الصورة المنطقية بحسب ما تقتضيه آلة القياس، بل الواجب – بمقتضى النظر الشرعي ومآلات الخطاب – أن يُلحظ ما كان أليق بمقاصد الشريعة وأدنى إلى طرائقها المستقرة، وأظهر ورودًا في مجاري ألفاظها وسنن تنزيلها. فإن اعترض معترض فقال: كيف يُعدل عن الدليل الذي لزم عن غيره لزومًا ضروريًا، وقد عُلم أن اللزوم العقلي يورث القطع؟ قلنا – ومن الله التوفيق – لا نسلّم أن مجرد اللزوم الذهني كافٍ في باب الترجيح، إذ اللزوم العقلي، وإن كان منتظمًا في الصورة القياسية، فلا يلزم منه لزوم شرعي يُعوَّل عليه في موارد الأحكام، ما لم يُتحقق مناط الاشتراك بين الملزوم ولازمه في حكم الشارع، ولم يُعلم اطراد العلّة أو تحقق العلة التامة في جميع صور المورد، وهو ما لا يدرك بالعقل المجرد، بل يُستفاد من التتبع والاستقراء لنظائر الشريعة، ومواقع خطابها، ومجاري سننها ومقاصدها، وذلك أن دلالة اللفظ على المعنى لا تُختزل في جهة الوضع الأول وحده، بل قد تكون دلالة بحسب السياق، أو باعتبار قرينة حالٍ أو مقام، أو مراعًى فيها عرف التخاطب، أو مقتضى البلاغة، أو مقصد بياني مخصوص، فليست كل دلالة لازمة في الصورة لازمة في الحكم.
وكثيرًا ما يغترّ الناظر بمجرّد التلازم الظاهري، فيُتوهم ملازمة بين أمرين، ثم إذا فُتّش عن مناطهما تبيّن أن المعلول قد تخلّف في مورد لموانع قائمة، أو لانتفاء شرط مقوّم، أو لاختلاف المقام، أو لسلوك الخطاب وجهًا مجازيًا لا حقيقيًا.
والنتيجة أن اللزوم الذهني – وإن استكنّ في طيّ الصورة البرهانية – لا يُلتفت إليه إذا خالف مقصود الخطاب أو شذّ عن سنن الشريعة، إذ المدار – في التحقيق – على لزومٍ شرعيّ معتبر، لا على تلازم ذهنيّ مجرد، فافهمه.
ثم إن تقديم أحد الدليلين على الآخر، حال تصادمهما في الظاهر – مع تسليم صحة كل منهما من جهة الثبوت أو الدلالة – ليس مردّه بالتحقيق إلى ضرب من التناقض بين المحمولات على موضوعات متساوقة في القضايا، ولا إلى اعتبار الصور التلازمية المحضة التي يتداولها أهل البرهان، ممن غلب عليهم تحكيم الصناعة المنطقية من حيث هي، دون رعاية لمآخذ الخطاب، ولا لسَنن التنزيل، ولا لعلل الأحكام ومقاصدها. بل الذي عليه راسخو الفهم، أن الترجيح قد يُبنى على مرجّحات خارجة عن صورة الدلالة من حيث هي صورة، ككون أحد الدليلين متقدمًا زمانًا في النزول، أو مقرونًا بقرينة صارفٍ ظاهرة، أو مشروطًا بشرط اختص بمورده، أو محاطًا بسياق دال على تخصيصه أو تأويله، أو راجحًا من جهة الثبوت لكثرة طرقه أو لشهرته أو لتواتره، أو من جهة الفهم والاستعمال لموافقته لمعروف الخطاب ومألوف التخاطب في لسان العرب.
فإن أصررت – بعد هذا البيان – على تقديم مجرد اللزوم الذهني، وطرحت كل هذه المرجّحات التي هي من جوامع الفقه في النظر، فقد دلّ فعلك على تقصير في فهم مناط الشريعة، وتقديم لصورة على مضمون، وتحكيم لمثال ذهني على تنزيل رباني، وذاك غاية ما يكون من الخطأ في باب الجمع والترجيح.
وأزيدك بيانًا، أن القياس البرهاني عند المناطقة لا يُعتد به في الشرع إلا بعد استكمال شروطه، من اتحاد موضوعيه في المقدمتين، واطراد المحمول في جهتي الإثبات والنفي، وانتفاء الدور والتسلسل، وقيام البرهان اليقيني على صحة كل مقدمة، مع خلوها من احتمال في الوضع أو النقل أو الاشتراك أو الإضمار. وهذه شروط عسيرة، يتعذر استكمالها في أكثر ألفاظ الشارع، لما فيها من الاحتمال، والاشتراك، والتخصيص، والإجمال، والتأويل، والحمل على مجاز أو اصطلاح عرفي، أو تنزيل مخصوص بمقام أو سبب. فكيف – وقد اتفقت كلمة الأصوليين أن دلالة اللفظ ليست دائمًا ظاهرة من جهة الوضع، بل قد تكون محمولة على عرف الصحابة، أو مستفادة من قرينة السياق، أو معتبرة بمقتضى حال السائل، أو بمراعاة مقاصد الخطاب – يُجعل النص الشرعي في قوة القضية المنطقية المجردة؟ بل كيف يُقاس ما يُلقى إلى عامة المكلفين بما لا يُلقى إلا إلى أهل الصنعة المنطقية، ممن يجردون الحدّ من كل عارض، ويقيسون الدلالة بمعيار التناسب بين المفهومات المحضة؟ أليس هذا من الخلط بين المقامين، والتغافل عن الفرق بين دلالة الوضع ودلالة الشرع، وبين مقتضى الصورة ومقتضى المقصود؟ فمن رام الجمع بين الأدلة على مقتضى البرهان المنطقي وحده، دون مراعاة لأساليب التنزيل ومقاصد التشريع،
فقد سلك غير سبيل الفقهاء، وركب متن الشطط، وكان حاله كمن يطلب معرفة معنى البيت الشعري من صورة وزنه العروضي، أو كمن يحاكم الإشارة إلى ألفاظ العبارة، فيفوته المقصود ويغيب عنه المراد. وإنما النظر الصحيح ما تأسس على اعتبار علل الأحكام، وفهم مقاصد الخطاب، ومعرفة مراتب الأدلة ومجاري الاستعمال، وترتيبها بحسب قوتها في الثبوت والدلالة، وأثرها في تنزيل الأحكام على الوقائع، فذلك هو الفقه، وبه يظهر التفاضل بين من عقل منطوق الشرع وسكت، ومن عقل مراده واستنبط.
ثم إننا – وإن جادلنا في مسألة الترجيح بين الأدلة – لا ينبغي لنا أن نغفل عن السياق الأعمق الذي يقتضي مراعاة أصالة الفهم الشرعي في مناقشة التعارضات الظاهرة، إذ لا يكفي – في مقام التأصيل – أن نلتزم بصورة ذهنية مجردة في بناء الاستدلال، بل لا بد من استحضار مراتب الإيمان بالخطاب الشرعي ذاته، الذي لا يمكن فصله عن خصوصيات الوحي وأسلوب تنزيله. فالتلازم بين قضايا الذهن قد يوهم في مرات كثيرة بترجيح ما لا يليق بحكم الشرع، وهو ما يغفل عنه من يجعل معايير العقل البرهاني هي الوحيدة الحاكمة.
فإن قلت: إن اللزوم العقلي مرجع لتقرير الحكم، لا لدفع التعارض بين الأدلة، قلتُ: هذا غفلة عن جوهر المسألة، فإن الدفع بين الدليلين يتطلب مراعاةً للمجموع الكلي من المرجحات الشرعية، لا الاكتفاء بما توهمه العقل من تلازم في الذهن. وذلك لأننا نكون بصدد سعي في دفع معارضة بين أدلة شرعية ذات صلة بمقاصد الشارع، لا مجرد استنباط أحكام من صور ذهنية. ففي مقام مثل هذا، يجب أن يتم الحكم على أساس التوازن بين الأدلة، وألا يقتصر على ما يقتضيه الشكل العقلي المجرد من لزوم، بل على ما يقتضيه الحال الشرعي. إن التمسك باللزوم العقلي فقط – باعتباره معيارًا للتقرير أو الترجيح – دون اعتبار لطبيعة الخطاب الشرعي وأسباب التنزيل، هو ما يجعل موازين الأدلة عرضة للإغفال.
إذ هناك مرجّحات تتعلق بمقاصد الشرع وكلياته، ومرجّحات ترتبط بمراعاة مآلات الأفعال، ومرجّحات تتعلق بتخصيصات السياق أو تكامل العلة في نصوص أخرى متوافقة. فكيف نغفل عن تخصيصات تطرأ على أحد الأدلة إذا كان هذا الصرف من شأنه أن يُعين على بيان مراد الشارع؟ كيف يمكن أن نكون مخلصين للنصوص، ونحن لا نراعي فوارق الأحوال ولا مراتب التفسير الشرعي؟ لذلك، فإن ترجيح دليل على آخر لا يكون مجرد تصور تلازم مفهومي، بل يرتكز على دراية عميقة بمقاصد الشريعة، وحضور فكري حيال كيفية تنزيل الأحكام على الواقع المعاش. فإن قلت: إن الجمع بين الأدلة وإن كان مرجحًا في بعض الحالات، لكن قد يكون هناك ما يقتضي الترجيح دون الجمع، قلتُ: إن الجمع هو الأصل، وإن الترجيح لا يكون إلا عند العجز عن الجمع. فذلك من قواعد الأصول الثابتة، التي تؤكد أن الجمع بين الأدلة يجب أن يكون أولًا في حالة الظاهر المتعارض، إذا ما كانت الأدلة قريبة من الفهم، ويمكن توجيهها بحيث لا تتناقض في الظاهر مع بعضها البعض. أما إذا لم يمكن الجمع، فإن الترجيح بين الأدلة يجب أن يكون مستندًا إلى أصل عميق في الشريعة، ألا وهو مراعاة المقصد العام والتوجه الكلي للأحكام. وهذا هو ما يميز الفقيه المتمرس الذي يجمع بين القواعد الأصولية الدقيقة وفهم مقاصد الشريعة، فلا يكون الحكم بموجب صورة العقل المجرد، بل بمقتضى التحقق من أبعاد النصوص وسياقها في خطابهما التكليفي.
أفلا ترى، أن الكثير من الأدلة التي نتصورها في حال تعارض، إذا ما أخذنا في اعتبارنا المقاصد الكبرى للشريعة، أضحى واضحًا أن أحد الأدلة قد يكون مخصصًا أو مقيّدًا أو محمولًا على حال معينة، لا على حال عموم أو إطلاق؟ وهذا هو ما يغيب عن نظر من يقتصرون على موازنة دلالات النصوص من حيث المحمولات، دون أن يتحسسوا أو يراعوا العمق الشرعي في فهم السياقات والمقاصد. بل إن من أخطر ما يقع فيه الكثيرون من المتكلمين – سواء أكانوا من أهل النظر العقلي أو من أصحاب البرهان الصوري – أنهم يتبعون المنطق المجرد في مقام الشريعة، ويغفلون عن أنه ما من نص إلا وله تنزيل خاص، وما من حكم إلا وله مقصد شامل، وأن العبرة في الحكم ليست دائمًا بما يبدو في الصور العقلية المجردة، بل بما تقتضيه النصوص وما يشير إليه واقع الحال الشرعي. فلهذا، ينبغي أن نعلم أن مرجّحات الشرع أعظم من أن تُحصر في حدود المنطق البرهاني الصوري، وأن تنزيل الأحكام الشرعية لا يتحقق إلا إذا كانت مرجعية الأدلة منسجمة مع مقاصد الشريعة وأعراف التنزيل. وعليه، فإن الصرف بين الأدلة من باب الجمع هو الأنسب إذا كانت الأدلة ظاهرة، وإن الترجيح لا يكون إلا إذا تعذر الجمع، فذلك سبيل الفقهاء الراسخين في العلم، الذين يفقهون أحوال التنزيل، ويستوعبون مراتب الأدلة، دون الركون إلى الصور العقلية المجردة التي قد تخدع في مقام التشريع.