“التجديد الأصولي” وأثره في واقعية الفتوى

ذ محمد جناي
دراسات وبحوث
ذ محمد جناي8 فبراير 2022آخر تحديث : الثلاثاء 8 فبراير 2022 - 1:36 مساءً
“التجديد الأصولي” وأثره في واقعية الفتوى

ذ. محمد جناي
لعله لم يعد خافيا أن التجديد الأصولي بات أمرا ضروريا، تفرضه المتغيرات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، فما من عصر من العصور ولا قرن من القرون الإسلامية، إلا واستجدت فيه مستجدات، وظهرت على الساحة قضايا جديدة تحتاج إلى بحث وتأمل، إلا أن هذا العصر وبسبب التقدم العلمي، وتعدد وسائل الإنتاج والتنمية، حدثت طفرة كبيرة وتغيرات جذرية في الحياة، صاحبها ظهور قضايا متعددة لا تقاس بالسنين والأيام بل بالساعات والدقائق، وهذا مما يدعو المسلمين إلى ضرورة الوعي بهذه القضايا ، وتأطيرها في إطار الشريعة حتى لا ينحرف المسلمون في تعاملاتهم ، ولا يتخبطوا فيها تخبط عشواء، وهذا ما انتبه له علماء الإسلام، فانتشرت المجامع الفقهية، وعقدت الكثير من المؤتمرات، وألفت الكتب المتعددة التي تناقش مستجدات العصر، سواء فيما يتعلق بالعبادات أم المعاملات.

والتجديد الفقهي هو التطوير بما يضمن تأثيره الإيجابي في الآخرين وذلك بتهذيبه مما علق به من انحرافات مع التمسك بالثوابت، ويعرفه الدكتور يوسف القرضاوي بأنه “هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر، بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد، وذلك بتقوية ما وهى منه، وترميم ما بلى منه، ورتق ما أنفتق منه، حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى.

وبمراجعة الفقه الموروث، يتضح لنا جليا أنه لا يفي بحاجات المسلم الذي يواجه قضايا ومشاكل تطرح أمامه أسئلة كثيرة، تجعله يتطلع إلى مخرج من الأزمة الحضارية التي يجد نفسه مقحما في دائرتها، الأمر الذي يستوجب توليد “فقه جديد” قادر على التكيف مع هذا الواقع المتغير بتحدياته المختلفة، غير أن تحقيق ذلك متوقف على إعادة النظر في علم أصول الفقه الموروث، وتجديده بطريقة توفر للاجتهاد الفقهي المعاصر آلياته.

ويتعين التجديد المطلوب، إذا كانت المسألة حديثة النشأة، ليس فيها نص ولا اجتهاد مثل المسائل الطبية والمعاملات وحتى عقود الزواج، كما أنه لا مانع من تغيير المراد بالمصطلح الفقهي، وتجديد النظرة إلى الواقعة إذا كانت غير موجودة في عهد نزول الوحي، وليست معروفة في الوسط القائم بين الناس، مثل كلمة « التصوير»، فإن المراد بها حتى نزول القرآن وفي العهد النبوي هو التصوير المجسد أو المجسم ، أما التصوير العكسي الحديث فليس مرادا به مضاهاة أو محاكاة خلق الله، ويستثنى من ذلك ألعاب الأطفال وغيرها من الموديلات التي تستخدم عند باعة الملابس مما لا يراد تعظيمها والمضاهات بها خلق الله تعالى والتي تهان أصلا باللعب والاستعمال عملا بالحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها قالت: “سترت سهوة لي – تعني الداخل- بستر فيه تصاوير ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم هتكه، فجعلت منه منبوذتين، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم متكئا على إحداهما” رواه ابن ماجة.

و من تم فكل جهد يزعم التجديد، وهو يحاول المساس بالمرجعية العليا في الإسلام بمصدريها الأساسيين: القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، والالتزام بضوابط فهمهما، فهو فكر منحرف لا ينسب إلى الجهد التجديدي، وبناء على ذلك فإن أي دعوة تجديدية تهدف إلى استبعاد هذه المرجعية سيكون مصيرها الإهمال وفي هذا يقول الأستاذ جمال سلطان: القرآن والسنة هما مرجعية كل نشاط فكري تجديدي في الإسلام.

يدور في أروقة دارسي العلوم الشرعية عموما ، والفقهية منها على وجه الخصوص في العقود الأخيرة، نقاشات ساخنة، حول تجديد منهجية الفقه الإسلامي، في كيفية التعاطي مع مستجدات العصر، والاشتباك مع قضاياه الملحة، وعدم الجمود على مدونات الفقه التي أنتجها الفقهاء المتقدمون لعصرهم، وفي هذا السياق برزت عدة اتجاهات لشكل هذا التجديد منها:

أولا: التجديد في الشكل والمضمون

أي تجديدا جذريا يطال كل الفقه وإعطاء العقل نصيبا كبيرا في هذا المجال ، فلا ثوابت ولا متغيرات والكل سواء، المهم هو أن يواكب العصر ويحقق المصالح للعباد ، مايعني التقبل والانفتاح على القوانين الوضعية وفي هذا يقول الكاتب الفلسطيني حسام أبو حامد في مقال نشره على الإنترنت ( وهكذا تبدو أزمة الفقه بنيوية ومنهجية في آن واحد)، وهكذا نجد الكثير من الحداثيين والعلمانيين دعوا بهذه الدعوة وخصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا وتغير الوضع السياسي في معظم البلدان العربية والإسلامية، وأيضا بعد ظهور الفرق التكفيرية التي أظهرت العنف كطريق لتطبيق الإسلام .

ثانيا: التجديد المقاصدي للفقه

توضيحا لمفهوم مقاصد الشريعة قال أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة الأردنية الدكتور عبد الله الكيلاني “مقاصد الشريعة ليست أمرا جديدا ولا طارئا على الدراسات الفقهية الإسلامية، بل هي مبحث أصله أئمة أجلاء ، وعلماء نجلاء ، من أكثرهم شهرة وتوسعا فيه أبو إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات”، حيث ظهرت البواكير الأولى للفكر المقاصدي الإسلامي مع الصحابة الكرام، وعرف تطورا ملحوظا مع علماء الإسلام على مر العصور، ولمعت في هذا الباب منارات كبرى ، وعلماء بارزين، مثل القفال الكبير والجويني والغزالي والعز بن عبد السلام وابن القيم وغيرهم من الأعلام .

وبين الكيلاني إلى أن ثمة تحسسا شديدا في أوساط بعض دارسي العلوم الشرعية من المقاصدية أو المقاصديين الجدد، لما يتبادر إلى أذهانهم من أن إحياء فقه المقاصد يراد به التفلت من الأحكام الشرعية الثابتة، أو التحلل من أصول الاستدلال المقررة في المنظومة الأصولية كما قررها الإمام الشافعي وأضاف الكيلاني أن “مقاصد الشريعة ليست من الأدلة الشرعية سواء المتفق عليها أم المختلف فيها، لكنها مما أرشدت الأدلة الشرعية إلى اعتباره وملاحظته، فهي المقاصد الكامنة وراء الأحكام والتكاليف الشرعية “.

وسياق متصل يرى الدكتور عمرو غانم أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، أن مسمى” المقاصديين الجدد” أصبح اسما يطلق على كل من يريد عزل النص الإلهي عن واقع الحياة بحجة المصلحة،وأن الشريعة ما جاءت إلا لتحقيق المصالح أيا كان نوعها، ممثلا لما يرونه مصلحة متوهمة(فهي التي يتخيل فيها صلاح وخير وهو عند التأمل ضر: إما لخفاء ضُرّه…وإما لكون الصلاح مغموراً بفساد)،بما جاء بخصوص الربا، فهم يرون أن آيات الربا نزلت في حق مجتمعات رعوية ، أما الآن فقد تغير العالم المالي والاقتصادي تماما، وبالتالي فإنها تسمى فائدة وليست ربا.

ويظهر من كلام الدكتور غانم أن المقصودين بنقده هم أتباع الاتجاهات الحداثية والعلمانية، أي أصحاب الاتجاه الأول ،الذين يسعون للتفلت من الأحكام الشرعية بحجة المصلحة والمقاصدية ، ومثل لهم بقوله “وبعضهم يرى بحجة المصلحة أن الحجاب لم يعد ملائما للعصر لأنه يقف أمام حرية المرأة”، وأضاف “ألم يعلم أولئك أن الشرع اعتبر التبرج مفسدة وهو ما يطلق عليه المصلحة الملغاة عند الأصوليين ، وهي ما تصادم نصوص الشرع، واصفا المقاصديين الجدد بأنهم يتسترون وراء المقاصد لإلغاء الفقه وأصوله وقواعده، وهدفهم هدم الشرع” على حد قوله.

ثالثا: تجديد الشكل وطريقة العرض والمضمون في المتغيرات مع بقاء الثوابت بلا مساس

وقد تبنى هذا النمط من التجديد علماء كثر من الأقدمية والمحدثين ابتدأ من الإمام أبي يوسف والإمام الشافعي والإمام أحمد وصولا لعلماء اليوم أمثال السنهوري وعبد القادر عودة ويوسف القرضاوي وهبة الزحيلي وجمال عطية وغيرهم من علماء الأزهر وعلماء المغرب العربي، ويعتمد هذا النمط التجديد وفق الضوابط التي ذكرناها سابقا في بداية المقال فيطرح الفقه والإسلام بطريقة جديدة متوافقة مع تطور العصر والزمان ، وينقي الفقه مما علق به من شوائب مما لا يناسب الزمان والمكان .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “ماشرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته -شرعا لازما- إنما لا يمكن تغييره، لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يظن بأحد العلماء المسلمين أن يقصد هذا، ولا سيما الصحابة، لا سيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال، ومنهم الخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونهم، ولو قدر أن أحدا فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا من أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك “.

وختاما ، فالإسلام دين حيوي أحكامه وتعاليمه توافق كل زمان ومكان، وحتى تتحقق هذه الصفة فلا بد له من التجدد والمواظبة لكل جديد وكل مستحدث، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه ابن داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، والفقه الإسلامي وما يتصل به من أبرز مظاهر الحضارة الإسلامية، وليس من شك في مدى الجهد الذي بذله العلماء المسلمون لبناء هذا الصرح الحضاري القانوني، ليكون نبراسا تهتدي به قوانين عدة في العالم، ومظهرا رائعا من مظاهر قراءة النص، وتحليل أدوات التفكير، ومقاربة الظواهر الاجتماعية والتكيف مع الواقع، ثم إعادة صياغته.
ـــــــــــــــــــــ
هوامش
(1):الدكتور حسن سهيل الجميلي، تجديد الفقه الإسلامي طريق إلى واقعيةالفتوى وتحصين المجتمع ،إصدارات شبكة الألوكة 2019.
(2): د.علي النمر باحث في الاقتصاد الإسلامي ،التجديد في الفقه الإسلامي ، منشورات شبكة الألوكة – قسم الكتب-.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.