19 أغسطس 2025 / 07:10

الاعتزاز بالآباء

جمعه: د. يوسف الحزيمري
الاعتزاز بالآباء يعني احترامهم وتقديريرهم، والاعتراف بفضلهم ومكانتهم، وقد يشمل ذلك الاعتراف بفضلهم في التربية والتوجيه، وتقدير جهودهم وتضحياتهم، والعمل على برهم والإحسان إليهم.

والاعتزاز يعني الاعتداد ، والثقة بالنفس، والاعتماد على الشيء أو الشخص، وفي هذا السياق، يكون الاعتداد بالآباء هو إعطاءهم المكانة اللائقة بهم، والاعتراف بفضلهم، وتقدير دورهم في الحياة.

وتكمن أهمية ذلك في الاحترام الواجب إيلاؤه لهم قولا وفعلا، و الحرص على طاعتهم في المعروف، وعدم مخالفتهم إلا في أمر فيه معصية لله، وكذا برهم والإحسان إليهم في حياتهم وبعد مماتهم، والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، والتواضع أمامهم وعدم التكبر عليهم.

وتجلب هذه القيم الواجبة في حق الأبناء على الآباء رضا الله، لأن طاعة الوالدين وبرهما من أعظم القربات إلى الله تعالى، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم، وتتحقق البركة في العمر لأن بر الوالدين سبب في زيادة العمر والرزق.

وأيضا تحصيل السعادة الأسرية، لأن الاعتداد بالآباء يعزز من قوة الروابط الأسرية ويجلب السعادة للأسرة.

وتتحقق القدوة الحسنة لأن الاعتداد بالآباء يعلم الأبناء أهمية احترام الوالدين والاعتراف بفضلهما، وبشكل عام يعتبر الاعتداد بالآباء سلوك إيجابي يعزز من مكانتهم ويجلب البركة والخير للأسرة بأكملها.

وهذا الاعتزاز بالآباء كان محط فخر للعرب في الجاهلية وبعدها، وخلدته أشعارهم وأقوالهم، ولا نبعد إن قلنا أنه غرض فرعي من غرض الفخر في الشعر العربي، والأمثلة على ذلك كثيرة نقتبس منها بعضا من الأبيات، منها قول الشاعر أبي دهبل الجمحي:

‌أَنا ‌اِبنُ الفُروعِ الكِرامِ الَّتي … هُذَيلٌ لِأَبياتِها سابِلَه
هُمُ وَلَدوني وَأَشبَهَتُهُم … كَما تُشبِهُ اللَيلَةُ القابِلَه

وقال قرة بن قيس بن عاصم:
‌أنا ‌ابن الذي شق المزاد وقد رأى … بثيتل أحياء اللهازم حضَّرا
فصبَّحهم بالخيل قيس بن عاصم … فلم يجدوا إلا الأسنة مصدرا
سقاهم بها الذِّيفان قيس بن عاصم … وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا

ولجرير الشاعر:
‌أنا ‌ابن فرعي بني زيد إذا نسبوا … هل ينكر المصطفى أو ينكر القمر

وقوله أيضا:
أنا ابن الأكرمين تنجَّبتني … قروم بين زيد مناة صيد

وله أيضا:
‌أنا ‌ابن عمرو وسعد حين تنسبنى … وابن الذين هم البيض المغاوير

وقال المَرّار الأسدىّ:
‌أَنا ‌ابنُ التارِكِ البَكْرِىَّ بشْرٍ … عليه الطَّيْرُ تَرْقُبُه وقوعا

وقال ابن دارة:
‌أنا ‌ابن دارةَ معروفاً بها نسبي … وهل بدارةَ يا للناس من عارِ

وقال الشاعر:
‌أَنَا ‌ابن كلاب وابن أوس فمن يكن … قناعه مغطيّا فإنّى لمجتلى

وفي «الكتاب لسيبويه» (2/ 153) وهو يتحدث عن النصب على التعظيم والفخر: «وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول: أنا ابنُ سعدٍ أكرمَ السَّعدْيِنا» قال محققو معاني القرآن للفراء : والرواية فيه: «أكرم» بالنصب على المدح، ويريد بسعد سعد بن زيد مناة بن تميم وفيهم الشرف والعدد.

وغالبا ما تكون هذه الأشعار في الاعتداد بالآباء في معرض إظهار العزة والمنعة وإغاضة العدو، فهذا عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو على فرس كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه…، جال عبد الرحمن بجواده بين عساكر الروم والعرب المتنصرة ودعاهم إلى القتال والبراز والنزال وقال دونكم والقتال فأنا ابن الصديق ثم جعل يقول:
‌أنا ‌ابن عبد الله ذي المعالي…والشرف الفاضل ذي الكمال
أبي المجيد الصادق المقال…أدين هذا الدين بالفعال

وقال أيضا: ‌
أنا ‌ابن أبي بكر الذي شاع ذكره. … خليفة خير المرسلين محمد
فياويل من عالى حسامي رأسه. … ويا ويل من عاجلته بمهند

وكان هذا في «فتوح الشام» ‌‌في ذكر فتح البهنسا وما فيه من الفضائل وما وقع فيه للصحابة رضي الله عنهم ومنه أن : زياد بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب تسلم الراية وكان رضي الله عنه فارسا عظيما وبطلا صنديدا فتسلم الراية وتوجه وهو ينشد:
أنا الفارس المشهور يوم الوقائع. … بحد حسام في الجماجم قاطع
إمام الوغى من آل ذروة هاشم. … حماة البرايا كالبدور الطوالع
‌أنا ‌ابن أبي سفيان من نسل حارث. … تموت العدا مني وكل منازع

ثم استدعى من بعده جعفر بن عقيل وأمر على خمسمائة فارس وتسلم الراية فتوجه وهو يقول:
‌أنا ‌ابن عقيل من لؤي وغالب. … همام شجاع للأعادي غالب
حماة الوغى أهل الوفا معدن الصفا. … إلى جود يمنانا مسير الركائب

وذكر أصول المرء والاعتداد بها وبتاريخها وأيامها من شأنه أن يقوي الاعتزاز بالانتماء، ويسيج الهوية من الاندثار، وليس فيه تكبرا إذا خلصت النية وحسنت، فالعصبية مطلوبة حين حسنها، قال في «التيجان في ملوك حمير» (ص39): «قال وهب: وإن يعرب بن قحطان بن هود النبي عليه السلام وجد رائحة المسك فقال له هود: دانت ميمون النقيبة يا يعرب أنت أيمن ولدي مر فإذا سكن عنك ما تجد فانزل على اليمن ولا تمر فإنها لك خير وطن وجاور بيت الله يا خير جوار. فصار يعرب بمن تبعه من بني قحطان وبني عابر ومن خف معه من بني ارفخشد فساروا في جمع عظيم ووجوه أهل بابل وكان يعرف وسيماً كريماً أفضل غلام ببابل وقال في ذلك:
‌أنا ‌ابن قحطان الهمام الأقيل … لست لكاك ولا مؤمل
يا قوم سيروا في الرحيل الأول … قحطاننا الأوفر غير الأرذل

وفي شعر قصي من «سيرة ابن هشام – ت سعد» (1/ 118):
«قال قصى:
‌أَنَا ‌ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيٍّ … بمكةَ مَنْزِلِي، وَبِهَا رَبيتُ
إلَى البَطحاءِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ … ومَرْوتُها رضيتُ بِهَا رضيتُ»

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا ‌ابن الذبيحين)؛ أي أحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا النَّبيُّ لا كَذِب … ‌أنا ‌ابنُ عبدِ المُطَّلِب

قال في «العين» (6/ 65): «فهذا من المنهوك، ولو كان شعراً ما جرى على لسانه، فإنَّ الله عز وجل يقول:{وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ}.

وأخرج عبد الرزاق في مصنفه (10/ 275 ط التأصيل الثانية): عَنْ عَائِشَةَ ابْنَةِ سَعْدٍ قَالَتْ: أَنَا ابْنَةُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي فَدَاهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ بِالْأَبَوَيْنِ”.

وعَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِسَعْدٍ يَوْمَ أُحُدٍ: “‌فِدَاكَ أَبِي”، ثُمَّ قَالَ: “‌فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي”».

ولو تتبعنا ما أشعره الشعراء وما نثره الناثرون في الاعتداد بالآباء ومكارمهم وجميل حلاهم وأوصافهم، لجمع ذلك في أسفار ضخام ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق كما يقال.