محمد التهامي الحراق
مع كل شهر ربيع الأول، صار يتجدّد النقاش حول حُكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وصار ينتعش في لغة المنكرين معجمُ التبديع والتضليل والتفسيق، ويُتّهم المحتفلون بالابتداع في الدين، فيما ينبري المحتفِلون للدفاع عن حقهم في الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستدعون الأدلة الشرعية والفقهية المؤيدة لذلك.
وبعيداً عن التورطِ في هذا السجال، هذه جملة ملاحظات حول هذا الاختلاف الذي أضحى سببا في إثارة الشقاق والخلاف بين المسلمين في المجتمع الواحد:
1 ـ يمثل هذا السّجال الذي تعرفه اليوم أساسا وسائلُ التواصل الاجتماعي حول حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، عَرَضاً من أعراض تأزّم العقلِ المسلم الراهن. فبعد قرون من العمل بهذا الاحتفال، ومئاتِ الرسائل والكتب المؤصّلة له، وعشراتِ الآلافِ من العلماء والحكماء والعارفين ممن دأبوا على هذا الاحتفال، وأغنوه بمتون شعرية ونثرية باهرة في الفرح برسول الله والتعريف بكمالاته ومحامده وسيرته ومناقبه؛ وبعد تواتر هذا الاحتفال عبر أجيال، وإسهامِه في تشكيل الوجدان الجماعي للأمة الإسلامية…بعد هذا وغيره كثير، يجدُ العقل المسلمُ اليوم نفسَه مُعْتَقَلاً في سؤال لا تاريخي؛ خصوصًا وأن الأجدادَ قد أصَّلوا لهذا الاحتفال وبيَّنوا وظائفَه النفيسة المتجددة عبر التاريخ؛ وأنّ اللحظة التاريخية المعاصرة بإكراهاتها التواصلية وانفتاحها المذهل وانهيار الحدود فيها بين الثقافات واللغات والهويات، وهولِ الخطر المحدِقِ بكل الهويات الفقيرة وما يتهددها من إفناء أو تذويب؛ هذه اللحظةَ تحتاج إلى استثمار كل الإمكانات للتعريف برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه إلى كمال سيرته وكونية أخلاقه وعالمينية رحمته.
ومع كل هذا، ما زالَ يطُلُع عليها أناسٌ لا يُحْسِنُ أغلبُهم الإصغاء لنصوص الوحي ولا لمصادر الشريعة ولا لتحولات التاريخ، بخطاب تسطيحي يختزل العقلَ في قفص التبديع؛ وذلك في جهل فظيع بواحد من أعظم ابتكارات العقل المسلم الحيّ، وهو علم أصول الفقه، والذي بدونه لا يمكن استنباطُ الأحكام من أدلتها الشرعية. هكذا يستسهلُ اليوم الكثيرون الحديثَ عن الحلال والحرام والبدعة والسّنة، فيما بضاعتُهم مزجاة إن لم تكن معدومة في هذا العلم، ولا استيعابَ لهم لِمَا وصلَ إليه العقلُ المسلم الخلّاق من علوم ومعارف ومناهج كانت مظهرا من مظاهر ازدهار هذا العقل وتوهجه العلمي والروحي والحضاري في التاريخ. من هنا، فإن المسؤولية العلمية والدينية والأخلاقية تقتضي التعامل مع الأسئلة الرئيسة التي تستدعيها اللحظة التاريخية زمانا ومكانا وإمكانا ورهانا، وتحرير العقل المسلم من الأسئلة المزيفة من قبيل سؤال حكم الاحتفال بالمولد النبوي.
2 ـ إن كل حديث عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يقتضي تدقيق مفاهيم شائعة على الألسن، لكنها غير مستوعبَة معرفياً ومنهجيا من لدن جَمٍّ من المعترضين على هذا الاحتفال. أشير تمثيلاً إلى مفاهيم: البدعة، الضلالة، السُّنة، الاتباع، الحلال، الحرام، الإحداث في الدين… الخ. وعدم تدقيق هذه المفاهيم يؤدي إلى نتائج وخيمة على مستويات فقه فهم النصوص، وفقه فهم الواقع، وفقه تنزيل النصوص في الواقع. زد على ذلك غياب عنصر رئيس في تثمير العلاقة بين النص والواقع، وهو استيعابُ حركة التاريخ وقواعدها وسُننها، وهو مما يشتغل به علم التاريخ. وقد كان الأستاذ أحمد التوفيق على حق حين صرّح ذات لقاء علمي، بأن المسلمين أضاعوا الكثير حين لم يعتبروا التاريخ علماً من العلوم الشرعية، في حين يفيد التاريخ، إفادةً لا نظير لها في استيعاب منطق الأحكام الشرعية، ومنطق تثمير النصوص الوحيانية الثابتة في التاريخ البشري المتحوّل.
ها هنا، يتبين أن اعتقالَ العقل المسلم في ثنائية الاتباع والابتداع، وإلغاءه لاعتبار التاريخ في فهم علاقة الوحي الثابت بالنوازل والوقائع والمسارات المتحوّلة للأفراد والجماعات، كلّ ذلك يُؤزّم العقلَ المسلم ويفاقمُ من أعطابه، ويجعله غير قادر على التفاعل الخصيب والتثمير الخلاق للوحي الثابت في التاريخ المتحول. وهو ما كان قد وعَى الأقدمون بعض أبعاده، كما يدلّ على ذلك اعتناؤهم بعلم أصول الفقه، وتعديدُهم لمصادر التشريع، بعد الأصلين الأصيلين (الكتاب والسنة)، حيث إن هذه المصادر وصلت إلى سبعة عشر أصلا تشريعيا في المذهب المالكي، مثل الإجماع، والقياس، وقول الصحابي، والمصالح المرسلة، والعُرْف، وسد الذرائع، والاستصحاب، والاستسحان، ومراعاة الخلاف… إلخ. وهي مصادر تدل على توهّج العقل المسلم واستيعابه لخطورة جدلية الوحي والتاريخ، وأهمية فهمها ومعالجتها للحفاظ على الدين وعلى وحدة الأمة، من خلال الحفاظ على مقاصد الشريعة ومصالح الناس.
3 ـ المتفحّص في كل مناحي الاعتراض على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يجدُها لا تنظر إلى هذا الأمر ضمن رؤية منهجية شمولية ذات ضوابط معرفية إجرائية، تأخذ في الاعتبار كلَّ أبعاد الاحتفال أصولاً وطرائق ومقاصد، وتضعه ضمن تاريخ تفاعل العقل المسلم مع التاريخ. ونظرٌ بمثل هذا الاعتلال يؤدي حتماً إلى إنكار عدد من الأسس والعبادات والأسباب التي أجمع المسلمون على أنها من الدين؛ إمّا من حيث المقاصد أو من حيث الوسائل. فإذا اعتبرنا مثلا أن “كل بدعة ضلالة”، وأخذنا هذه الكلية، وبخلاف منطق الدلالة ودلالة المنطق، في عموم غير مخصوص، وقَعْنَا في تناقضات جَمّة باستحضار نصوص أخرى مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ” (صحيح البخاري)؛ حيث قيّد الإحداث بما لا أصلَ له في الدين، أو مثل قوله صلى الله عليه وسلم مبشرا ومتنبئا بظهور التجديد في أمر الدين: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها” (سنن أبي داوود)؛ أو مثل تمييزه صلى الله عليه وسلم بين “السنة الحسنة” و”السنة السيئة” في قوله: «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرُها وأجرُ من عملَ بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزْرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (سنن ابن ماجة).
والبدَع الحسنة (السنن الحسنة) كثيرة؛ منها أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر ملتصقاً بالبيت ثم أخّره عمر، وقال الحافظ بن حجر في “فتح الباري”: “ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعاً”؛ ومنها أذان الجمعة حيث زاد عثمان بن عفان النداء الثالث؛ ومنها جمع عمر بن الخطاب الناسَ على إمام واحد في صلاة التراويح خلال شهر رمضان؛ ومنها جمع القرآن الكريم على عهد أبي بكر، وتوحيد المسلمين على مصحف إمام على عهد عثمان؛ ومنها شكلُ القرآن ونقْطُه وتوزيعه أجزاءً وأحزاباً؛ فضلا عن مختلف المعارف اللغوية والتفسيرية والفقهية والحديثية والكلامية والصوفية المتمحورة حولَه، زد على ذلك بناء الصوامع والمساجد والمنابر وتوسيع معمارها، وتزويدها بكل المستحدثات الميسّرة لظروف العبادة.
هكذا يبدو أن علماءنا الأفذاذ أدركوا منطق تثمير الوحي في التاريخ، من خلال مراعاة الأصول والمقاصد الثابتة، والاجتهاد في التأصيل للسنن الحسنة المستجدّة من حيث الوسائل والطرائق المشروعة، لكن الخادمة لروح الدين ولمقاصده المتعالية. وما أزرى، وسيزري بالعقل المسلم هو النهج الحرفي الظاهري اللاعلمي واللاتاريخي في التعامل مع الدين ونصوصه الوحيانية. إنه عنفٌ رمزي حيال النصوص وحيال المسلمين على حد سواء.
4. إن وجود انحراف في بعض طُرُق الاحتفال لا يعني فسادَ أصله وعدم شرعيته من حيث مبدؤُه ومقصده، فالجواهر لا تؤخذ بالأعراض؛ فوجود تفاسير منحرفة للوحي لا يقتضي إلغاء علم التفسير، ووجود أحاديث موضوعة لا يعني إسقاط العمل بالحديث إجمالا، ووجود أخطاء ببعض طبعات المصحف لا يعني منع طبع المصحف، ووجود اجتهادات فاسدة باسم الفقه لا يعني تعطيل الاجتهاد أو إلغاء علم الفقه…إلخ؛ بل لابد من تحرير موضِع الفساد لتصحيحه، وهذا ديدن الحكماء. ثم إننا اليوم حين نقرنُ النظرَ في النصوص بالنظر في التاريخ، نفهم الأدوار الرفيعة دينياً وسياسياً ونفسياً وثقافيا واجتماعياً وتاريخيا لهذا الاحتفال بالمولد المحمدي في التاريخ. لنستحضر، على سبيل المثال، إلحاحَ العلماء على هذا الاحتفال في القرن السابع للهجرة في الغرب الإسلامي، حيث نسجل هنا كيف أن العلامة أبا العباس العزفي لاحظ تقليد مسلمِي سبتة للنصارى في احتفالهم بأعياد المسيحيين مثل النيروز والمهرجان، وكيف أراد هذا العالِمُ، المصغي لأسئلة واقعه التاريخي، أن يصرفهم عن ذلك بهذه السنة الحسنة، حتى يصل مسلمي سبتة بنبي الإسلام، ويُمَنِّعَ عقيدتهم ويحصّن شخصيتهم الدينية عبر استثمار هذه المناسبةِ لتعريفهم بسيرة نبيهم الكريم، وربطهم بمحامده ومكارمه وشمائله وكمالاته. إنه فعلٌ رفيع ينم عن وعي يقظ بالتهديد الذي حاق بالهوية الإسلامية، فكانت هذه الهَبَّة العلمائية لإنقاذ الهوية الإسلامية من خطر مستجدٍّ ذي طبيعة تاريخية وثقافية مخصوصة.
هذا الوعي التاريخي نفسه هو الذي يجعلنا نُدركُ البعدَ الآخر الأعمق لانتعاش هذا الاحتفال في هذا القرن؛ بل وظهور أعلام شعراء المديح النبوي (مثل شرف الدين البوصيري، أبو مدين الغوث، عمر ابن الفارض، أبو الحسن الششتري، أبو بكري الوتري…) وأمهات نصوص الصلاة على النبي الكريم (مثل الصلاة المشيشية…) في هذا القرن؛ ذلك أن سقوط مركز الخلافة في بغداد على يد المغول عام 656ه/ 1258م، والتنكيل بالخليفة، أدّى إلى انهيار الرمزية السياسية الموحّدة لكيان الأمة الإسلامية، فكان أن اعتنى العلماء بترميم الوجدانِ الإسلامي الجماعي المنفوش والمتمزق جراء هذه الهزيمة الحضارية النكراء، وكان أن بذلوا كل جهودهم العلمية والروحية والثقافية والجمالية لوصل المسلمين برمز روحي جامع لكل أطياف الأمة؛ وذلك عن طريق ربطهم بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره الوحدة المعيارية العليا الجامعة للكيان الروحي والوجدان الجمعي للأمة الإسلامية، على تعدد لغاتها وثقافاتها وذاكراتها المحلية (راجع مثلا: كتاب المستشرقة الألمانية الكبيرة آني ماري شميل حول حضور الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الثقافات الإسلامية الأسيوية، في كتابها: “وأن محمدا رسول الله: تبجيل النبي في اللدين الإسلامي”..). وهو ما يعني أن ذاك الربطَ المعرفي والروحي والثقافي والجمالي بالأنموذج المحمدي قد شكل فعلا روحيا وتاريخيا وسياسيا عميقا، يمكن للدراسات الانثربولوجية والمستمِدّة من علم النفس التاريخي أن تبرز عظيم وظائفه ورفيع فعله التاريخي في المحافظة على الوجود الرمزي والتاريخي لأمة الإسلام.
5 ـ واليوم نحن أحوج ما نكون إلى الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف، لِمِلْحَاحِيَّةِ الحاجة إليه، في عالمٍ انهارت فيه الحدودُ بين اللغات والثقافات والهويات والانتماءات، وصارت للصورة والفنون والإعلام قدرةٌ جبارة على التأثير بعد الثورة الرقمية الهائلة التي عرفتها البشرية؛ مثلما نحن في حاجة إلى هذا الاحتفاء في وقتٍ تشيع فيه صور شائهة عن الإسلام ونبيه؛ بل وفي وقت يُخْتَطَفُ فيهِ أبناؤنا رمزياً وثقافيا من بيننا، حيث يعرفون كل شيء تقريبا عن نجومِ الرياضةِ والفنّ والسينما والإعلام وبعض أعلامِ التاريخ الغربي، بينما يجهلون المعارف الضرورية التي تعرفُهم بنبيّ الإسلام، بوصفه “أسوةً حسنة”، و”إنساناً كاملا” و”رحمة عالمينية”، و”رسولاً هاديا” جاءَ بالقيم الربانية الرفيعة المنقذة للإنسانيةِ جمعاء. ويكفي أن نفهم اليوم الأدوار غير المسبوقة التي تضطلع بها الأعيادُ والأيام العالميةُ في مختلف القضايا والموضوعات والمجالات للفت الانتباه الكوني والجماعي، ومن داخل التعدد الهوياتي والثقافي واللغوي والسياسي، إلى نفس الموضوع ليصير، ولأول مرة في التاريخ البشري، موضوعاً كونياً، يُنْتَبَهُ إليه ويُفَكَّرُ فيه بشكل متزامنٍ من داخل مرجعيات متعددة، وبأشكال من الاقتراب غنية ومتنوعة.
من هذا المنظور، تبدو “النقاشات” و”التدوينات” و”المواعظ” و”المماحكات”…الخاصة بالحُكم الفقهي لاحتفال المسلمين بالمولد النبوي الشريف، والتي صارت تشكل “صخبا” يتكرر كل سنة؛ تبدو تلك “النقاشات” أمارةً من أمارات تأزم العقل المسلم اليوم كما قلنا آنفا؛ ذلك أن هذا “الصخب” يدور في حلقة مفرغة دون أن ينتهي إلى إنتاج أسئلة أخرى أكثر ملحاحية وإجرائية وجدوائية في السياق الراهن، من قبيل: كيف نقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إلى العالم؟؟ كيف نغتنمُ هذه المناسبة لنصحّح بعض الصور النمطية الشائعة عن الإسلام والمسلمين في العالم؟؟ كيف نبلورُ خطابا شفّافا يترجم الرحمة المحمدية العالمينية بلغة وإبستمية الهنا والآن؟؟؟ كيف يمكن للصيني والاسترالي والجنوب إفريقي والألماني والأمريكي اللاتيني….أن يجد في هذه الرحمةِ معناه الخاص الذي يبحث عنه في هذا الزمنِ الروحاني الكوني المشروخ؟؟؟؟ ما السبيلُ لجعل خطابنا عن الكمال المحمدي اليوم يستوعبُ أسئلة أكثر من ستة مليار إنسان من غير المسلمين؛ فضلا عن المسلمين برهاناتهم المتجددة في السياق الراهن؟؟؟؟ كيف يمكننا استثمار المرجعية الروحية والأخلاقية المحمدية الكونية في إلهام الإنسان ما به يمكن مواجهة تحديات الفقر والبيئة والهجرة وتفكك الأسرة والمجتمع وانتشار بعض الأمراض الفتاكة والحروب واليأس واستئساد الشر والفراغ الروحي والكاووس الأخلاقي وتجَبُّر الإنسان بالعلم المادي وتقديسِ الاستهلاك وتأليهِ الربح وسطوةِ التكنولوجيا الفائقة ومغامرات الذكاء الاصطناعي….؟؟؟؟…إلخ.
أيها السادة؛ ثمة آفاق كبرى لا مفَكَّر فيها تحجبُها عنا فهومٌ قاصرة، وقلوب غُلْفٌ، وأسئلةٌ عانِسَةٌ، ومقارباتٌ صارت مثل وَرِقِ أهل الكهف لكونها فقدت صلاحيتها؛ متوهمةً أنها تتكلم باسم الدين، فيما هي تحصر الآفاق المعرفية والروحية والأخلاقية للدين الخاتم في فهوم ومفاهيم وثنائيات ومعجم تاريخي…هو قولٌ تاريخي نسبي بشري في الدين، لا قول الدين الخالدِ العابر للأزمنة والأمكنة والرهانات والأسئلة. لذا، ما فتئتُ شخصيا أركّز على تثمير الاحتفالِ بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجديدِ الصلة المعرفيةِ والروحيةِ والأخلاقية بالكمالِ المحمديّ من خلال ثلاثية المحبة والفرح والجمال، طلبًا لتجديد نَفَس الاقتراب من سيرته وأنموذجه وفق رهانات الإنسان وأسئلته، أسئلةِ عقله وروحه وسلوكه، هنا والآن.
وإجمالا، فإن استحضارَ هذه الاعتبارات التاريخية والحضارية يجعل الاحتفال بالمولد النبوي اليوم أمراً واجباً، وليس فقط مستحباً؛ لكونه يسهم في تجديد معنى السيرة النبوية في العقول والقلوب؛ وذلك من خلال الإسهام في تعريف أبنائنا والعالم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقريبهم من شخصيته وسيرته وكمالاته وقيمه باستثمار كل الوسائل والطرق؛ وخصوصا طرقَ المحبّة والفرح والجمال. وهي طرق قريبة من فطرة الإنسان، ولها تجليات معاصرة لابد من الأخذ بها وتطويرها لبلوغ تلك المقاصد الكبرى في وصل العالمين بالرحمة المحمدية الكونية.
إن هذا المقال لا يستقصد الإسهامَ التفصيلي في التأسيس الشرعي للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وقد قام بذلك بقوة وبلاغة وبهاء أعلام هذه الأمة على مدى قرون، ولا يرمي إلى الدخولِ في مماحكات أصولية لإثبات وجوب هذا الاحتفال اليوم، وهو واجب دينيا وحضاريا كما ألمعنا؛ وإنما المقصودُ هو الإسهامُ في إيقاظِ العقل المسلم وتنبيهِه إلى بعض أعطابه التي من بينها عدمُ القدرة على استيعاب اجتهاداتِ السابقين في الوصل المثمر بين الأصول الوحيانية الثابتة والمسارِ المتحول للتاريخ، و من ثم دعوتهُ إلى مواصلة هذا الوصل في السياق المعاصر بالإصغاء الخلّاق إلى طبيعة اللحظة التاريخية المعاصرة، والعمل الاجتهادي لتجديد معنى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، بما تقتضيه اللحظة التاريخية والحضارية المعاصرة؛ والتي نحتاج فيها إلى استثمار هذا الاحتفال لتعريف العالمين بالرحمة المحمدية، وتصحيح كثيرٍ من الأحكام والصور النمطية الشائهة عن الكمال المحمدي؛ مثلما نحتاج فيها إلى تثمير الوظيفة الروحية والرمزية التوحيدية التي يضطلع بها هذا الكمال المحمدي في توحيد وجدانِ المسلمين، وربطهم برمز دينهم وعنوان أخلاقهم وأيقونة مرجعيتهم الروحية ومصدر إلهامهم الأخلاقي؛ وذلك لإقْدَارِ العقلِ المسلمِ على الإسهام في إنقاذ الإنسانيةِ اليوم من مآزقها المعرفية والروحية والأخلاقية، من خلال الإبداع في تقديم معالم الرحمة المحمدية العالمينية لإنسان اليوم بما يلبي احتياجاته، ويجيب عن أسئلته، ويسدد بوصلتَه، وينقذه من إحراجاته، ويمكِّنُه من مواجهة تحديات هنا وإكراهات الآن.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21075