الإسلام والعلمانية.. نحو فهم جديد للعلاقة بين الدين والدولة

3 ديسمبر 2025

الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
تتقدّم النقاشات في عالمنا المعاصر حول مفهوم العلمانية وموقعها من الدين، وكثيرٌ من هذا الجدل يفتقد لروح النظر المقاصدي الذي يزن الأشياء بميزان الشريعة لا بعناوينها، ويربط المفاهيم الحديثة بجوهر القيم القرآنية لا بصورها التاريخية.

فالخطابات التي تجعل العلمانية رديفاً للكفر أو خصماً للإسلام تنطلق في الغالب من فهمٍ حرفي للدين، لا من إدراك فلسفي لمقاصده التي تقوم على الحرية والكرامة الإنسانية ورفض الإكراه واعتبار الإيمان فعلاً وجودياً نابعاً من القلب لا من ضغط السلطان.

وفي الحقيقة، ليست العلمانية ديناً ينازع الدين، ولا عقيدة تنافس العقائد؛ إنها إطار قانوني ينظم إدارة الشأن العام، ويمنع هيمنة طائفة على أخرى، ويحفظ للإنسان حقه في أن يعبد ربه أو يبحث بنفسه عن الحقيقة.

وهذا المعنى – في عمقه – هو مما نطق به القرآن حين جعل حرية الاعتقاد أصلاً لا يُمسّ: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، و «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»، و «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ». فهذه الآيات ليست مجرد أحكام وعظية، بل هي تأسيس فلسفي لقيمة الحرية الدينية بوصفها جزءاً من الكرامة التي أرادها الله للإنسان .

والخلط الشائع الذي يصوّر فصل الدين عن الدولة كأنه فصل للدين عن المجتمع ناشئ من عدم التمييز بين السلطة التي تُدار بالمؤسسات والقانون، وبين الإيمان الذي يسكن القلوب ويثمر في الأخلاق.

فالعلمانية لا تلغي الدين ولا تسعى إلى محوه من المجال العام، بل تمنع تحويل الدولة إلى جهاز “كهنوتي” يُكره الناس على تصور معيّن لرسائل السماء .

والدليل أن المجتمعات العلمانية الحديثة هي التي اتسعت فيها المساجد والكنائس والمعابد، وانتشر فيها التعليم الديني والدعوة للإسلام والتبشير به ، ووجد المسلمون فيها فضاءً رحباً لممارسة شعائرهم وبناء هويتهم دون خوف أو تضييق.

ولعلّ التاريخ القريب يؤكد أن رحابة الإسلام وانتشاره في أمريكا اللاتينية والشمالية وفي كثير من الدول العلمانية لم تكن لتتحقق بهذا الاتساع لولا أن هذه المجتمعات منحت الإنسان مساحة حرّة لاختيار طريقه الروحي دون رقابة سلطوية أو ضغط اجتماعي .

أما ما يحدث في أوروبا من توترات فليس نابعاً من العلمانية ذاتها، بل من رواسب التاريخ وصراعاته مع العالم الإسلامي، ومن أحداث سياسية ولّد بعضها بعضاً، بدءاً من فتح الأندلس مرورا بالحروب الصليبية إلى لحظة 11 سبتمبر وصعود التطرف من الجانبين، ما خلق مخاوف متبادلة استغلتها خطابات الكراهية والإسلاموفوبيا .

ولهذا فالمشكلة ليست في مبدأ الفصل بين الديني والسياسي أو الفصل بين الدين والدولة، بل في الذاكرة المثقلة بالتوتر والنزاعات.

مع العلم أن في قلب التجربة الإسلامية نفسها نموذج بالغ الدلالة والأهمية: وثيقة المدينة، التي صاغها الرسول ﷺ كأول عقد اجتماعي يقوم على المواطنة المشتركة والحرية الدينية وحق الجماعات في إدارة شؤونها دون قهر أو وصاية، هذه الوثيقة لم تجعل الدين سلطة فوق الناس، بل جعلته قوة روحية تُهذّب الضمير وتبني العدل، بينما جعلت الحكم للشورى، والحقوق للإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث عقيدته ودينه..

وهذا عين ما تنشده النظم المدنية الحديثة حين تحمي حرية الأديان، وتساوي بين المواطنين، وتفصل بين الإيمان وبين سلطة الإكراه.

ومن منظور مقاصدي، لا يتعارض الإسلام مع أي نظام يحقق العدل ويحفظ الكرامة ويمنع الاستبداد ويوفر للإنسان حريته، لأن هذه الغايات هي روح الشريعة ومقصدها الأعظم، ولذلك فتعامل المسلمين مع مفاهيم كالعلمانية والديمقراطية والدولة الوطنية ينبغي أن يكون من باب الاجتهاد لا من باب التحريم والحظر، ومن باب المواءمة لا من باب الصدام.

فالشريعة لا تُلزم المسلمين بشكل معيّن للدولة، بل ترشدهم وتوجههم إلى مبادئ عليا وقيم انسانية عظيمة، كالحرية، العدل، المساواة، الرحمة، وأمن الناس.. وهذه المبادئ يمكن أن تتحقق في صيغ سياسية متعددة إذا صلحت النيات واستقامت المؤسسات .

والواقع اليوم يشهد أن الأديان – والإسلام بينها – لم تعرف مساحة واسعة من النمو والانتشار والدعوة بكل حرية إلا في ظل الدول المدنية الحديثة التي ضمنت بالقانون حماية المعابد وحرية العقيدة، فاقتربت بذلك من روح قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ».

وما فعله الرسول ﷺ في المدينة كان في جوهره محاولة مبكرة لتأسيس مجتمع مدني يتعايش فيه الجميع بسلام، دون فرض ديني أو إقصاء عقدي.

وهكذا يتبين أن العلاقة بين الإسلام والعلمانية ليست علاقة خصومة كما يصوّرها الخطاب المتطرف، بل هي علاقة تحتاج إلى بصيرة مقاصدية تلتقط جوهر القيم القرآنية وتضعها في سياق الدولة الحديثة. فالإسلام، بعمقه الفلسفي وروحه المقاصدية، قادر على التعايش مع الدولة المدنية، بل والمساهمة في الارتقاء بها، ما دام الهدف المشترك هو صون الإنسان وإقامة العدل وإشاعة الرحمة، وهي مقاصد تتسق مع أعظم غايات الرسالة المحمدية.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...