أحمد فرحان
العلم بلا روح: عن هشاشة القوة وغربة الإنسان:درس من وحي التجربة الإيرانية
في قلب الحداثة التقنية، حيث يُقاس التفوق بمعايير النموذج الصناعي والعسكري، ينهض سؤال فلسفي مؤرق: ماذا يبقى من العلم إذا كان يتطور دون الارتقاء بقيم المَدنية؟ وهل تُقاس عظمة الأمم بما تملكه من مفاعلات وصواريخ، أم بما تُؤَسِّسُه من ثقة وعدالة وكرامة ومساواة وحقوق إنسانية في العيش الكريم؟
إن التقدم التقني، في غياب الحياة الإنسانية الكريمة، ليس إلا جسداً ميكانيكيّاً بلا روح، قوة هائلة في الظاهر، لكنها جوفاء في الداخل. وحين تُختزل غايات الدولة في السيطرة والتفوق، دون استحضار الإنسان كمقصدٍ ومرجعية، تُصاب السيادة في جوهرها بعلّة الاغتراب.
التجربة الإيرانية تُجسد هذه المفارقة بحدة. فمن جهة، طورت الدولة قدرات نووية وصناعات عسكرية تُثير الإعجاب والريبة معًا؛ ومن جهة أخرى، انكشفت الهشاشة الأخلاقية والسياسية لهذا البناء حين تهاوت الثقة، وتفككت الروابط بين المواطنين ومؤسسات الحكم.
لقد أصبح العَالِمُ الإيراني – رمز الإنجاز العلمي الصناعي والعسكري – عرضة للاغتيال أو الخيانة، لا فقط من خصوم الخارج، بل من بعض أبنائه. أي مفارقة هذه التي تجعل من حامل المعرفة عدوّاً محتملاً، ومن الحارس خائناً؟ إن السيادة حين لا تُبنى على شرعية أخلاقية، تصبح عرضة للاهتزاز مهما بلغت قوتها.
ليست المشكلة في التقدم ذاته، بل في السياق الوجودي والأخلاقي الذي يُؤطره. فالمعرفة من دون عدالة، والعلم من دون حرية، ليسا سوى أدوات تسلط. إنّ المفارقة الفلسفية هنا هي أن الدولة التي تُعظم منجزاتها التقنية وتُهمِّش إنسانها، تبني قوةً وهمية سرعان ما تنقلب ضدها. فالأمن لا يتحقق بالمراقبة، بل بالثقة؛ والانتماء لا يُصنَع بالإكراه، بل بالمعنى.
الفكر الفلسفي والتجربة التاريخية كلاهما يُنبِّهان إلى أن الحضارات لا تُبنى بالصواريخ فقط، بل بالإنسان. لم تكن عظمة أثينا كامنة في أسلحتها وشجاعة أبطالها المقاتلين ، بل في محاورات سقراط، ومسرحيات سوفوكليس، وساحة الأغورا. ولم تكن النهضة الأوروبية ثورة آلات، بل صحوةً للكرامة الإنسانية وإعادة اكتشاف العقل والجمال. وحتى تجارب التحديث الآسيوي لم تتغافل عن الاستثمار في التربية والثقافة وبناء عقد اجتماعي جديد.
إنّ المناعة الحقيقية لا تُختزل في السلاح، بل تُقام على قاعدة ثلاثية: عدالةٌ تُنصف، وحريةٌ تُحرر، وكرامةٌ تُصان. دولةٌ تُهمل هذه القيم، وإن امتلكت أسلحة الدمار، تبقى عاجزة عن إنتاج الانتماء. فالمجتمع الذي تحكمه الامتيازات السلطوية والمحسوبية القبلية والانتساب الدموي والتمييز والتفضيل بناء على الدغمائية العقدية دينا كانت أم عرقا، ويُدَار بمنطق الشك والقمع، يولد فيه الفرد غريباً عن ذاته وعن وطنه، إلا من أنانيته وانتهازيته. لا يملك من الوعي الأخلاقي ما يدافع عنه إلا عن بقائه مضطرا، ولا يرى في الانتماء إلى الوطن إلا انتماء احتفاليا مسكونا بفروسية التبوريدة الفلكلورية، أو بالحماسة الأولمبية.
إنّ الدرس الفلسفي العميق الذي تُقدمه الحالة الإيرانية هو التالي: لا وجود لحضارة دون إنسانيات، ولا يُبنى وطنٌ من دون مواطنٍ يشعر أنّه ليس تابعاً أو خاضعاً أو خائفاً، بل شريكٌ في المعنى والمصير. وإذا كان للعلم أن يكون أداة تحرر، فلابد أن يُقترن بالفكر النقدي، وأن يُسند بروحٍ أخلاقية تعترف بأن الإنسان ليس وسيلة بل غاية.
ليكن الشعار إذاً: لا تقدم بلا عدالة، ولا حرية بلا كرامة، ولا علم بلا روح.