سعيد الكحل
شكلت قضية التلميذة التي منعتها إدارة مؤسسة تعليمية خاصة بمدينة الدار البيضاء من حضور حصصها الدراسية المقررة بسبب ما اعتبرته الإدارة لباسا “مخلا بالآداب”، حدثا يبدو بسيطا وهامشيا ،لكن في الواقع يظل حدثا جوهريا لاعتبارات عدة أهمها:
1 / إن المؤسسة التعليمية تشتغل ضمن القوانين الجاري بها العمل، والتي يؤطرها الدستور الذي يتبنى صراحة قيم حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وفي مقدمتها حقوق الطفل، ومن ضمنها الحق في التعليم.
وقرار منع التلميذة من متابعة دراستها وحرمانها من حضور الحصص الدراسية المقررة وفق استعمال الزمن الخاص بقسمها بذريعة أن لباسها “يخل بالآداب” (ترتدي تنورة وفوقها وزرة تلامس ركبتيها)، هو خرق للدستور كأسمى تشريع ، واعتداء على حق التلميذة في التعليم والاستفادة من حصصها الزمنية المبرمجة، وتعنيف لها عن طريق الحجز لمدة خمس ساعات وتعريضها للسخرية والإذلال أمام تلاميذ المدرسة، فضلا عن الخرق السافر لميثاق التربية والتعليم وكذا اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة التي تنص على (لكل طفل الحق في التعليم.
ويجب أن يكون التعليم الأساسي مجانياً وأن يكون التعليم الثانوي والتعليم العالي متوفرين. وينبغي تشجيع الأطفال على الذهاب إلى المدرسة للحصول على أعلى مستوى تعليمي ممكن. وعلى المدارس احترام حقوق الأطفال وعدم ممارسة العنف بأي شكل من الأشكال).
2/ إن إدارة المؤسسة تعاملت مع التلميذة “كجانح” تهدد السير العادي للمؤسسة، فقررت منعها من دخول القسم الدراسي وحرمانها من دروسها؛ وهذا خرق للمذكرات الوزارية المنظمة للعملية التربوية والتي تمنع كلها إخراج التلميذ من الفصل الدراسي أو منعه من الدخول إلا إذا كان وجوده يهدد فعلا السير العادي للمؤسسة.
والطفلة بلباس التنورة عند مستوى الركبة لا تهدد السير العادي للمؤسسة ولا حتى تربكه. بل إن مذكرات وزارة التعليم والمراسلات الصادرة في الموضوع تشدد على أنه” يـُمنع إخـراج التلاميذ أثناء الحصص، على اعتبار أن المؤسسة التعليمية مسؤولة قانونياً عن التلميذ منذ التحاقه بها، طبقا لجدول حصصه” وأن “كل إخلال بهذه المسؤولية يعتبــر تقصيرا، ويـُعرض صاحبه للمساءلة الإدارية والقانونية طبقاً للتشريعات الجاري بها العمل”.
فضلا عن هذا ، وحتى لو سلمنا جدلا أن التلميذة لم تلتزم بالزي الموحد للمؤسسة، مع العلم أن المؤسسة إياها لا تفرض زيا موحدا على التلاميذ، فإن المخالفة، في هذه الحالة، تكون من الدرجة الأولى0، أي مخالفة بسيطة يمكن معالجتها تربويا وليس زجريا.
والأخطر في الأمر أن إدارة المؤسسة لم تكتف بمنع الطفلة من الدخول إلى القسم ، بل عرّضتها للإهانة والإذلال والسخرية أمام تلاميذ المؤسسة ، مما سيترك آثارا عميقة على نفسيتها.
3/ إن الحادث بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة. ذلك أن مقارنة بسيطة بين هيئة وأزياء التلميذات في المؤسسات التعليمية، بمختلف مستوياتها ،في العقود الثلاثة الأولى من استقلال المغرب، أي إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت التنورة هي الزي المعتاد للتلميذات والأستاذات على حد سواء ، والهيئة التي عليها تلميذات العقدين الأوليين من الألفية الثالثة، سيدرك أن تغييرا عميقا حدث في المجتمع المغربي على مستوى الثقافة والقيم ومعايير الأخلاق والذوق العام.
فالانفتاح الذي سار عليه المجتمع مع بداية الاستقلال عززه التحاق الإناث بالتعليم ودخولهن عالم الشغل والوظيفة وارتداؤهن الأزياء العصرية. فهذه كلها ثمار سياسة التحديث التي نهجتها الدولة وبلورها المشروع المجتمعي الحداثي الذي أقام أسسه الملك الراحل الحسن الثاني وعزّزه جلالة الملك محمد السادس بترسانة من الإصلاحات السياسية والدستورية وكذا التشريعات القانونية ثم المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب أو رفع تحفظاته عنها.
إن إستراتيجية تسريع التحديث التي نهجها جلالته لم تجد ، للأسف، النخبة السياسية والثقافية التي تستوعبها وتنخرط فيها بكل جدية. وقد أبانت كثير من اللحظات المفصلية أن جلالة الملك ومعه الدولة أكثر جرأة وشجاعة على إحداث التغيير والتحديث من النخبتين السياسية والثقافية اللتين تراجعتا عن مطالبهما الأساسية من أجل الحداثة والديمقراطية وخرجتا صاغرتين من المعارك الدستورية والحقوقية أمام تيار الإسلام السياسي الذي عرقل جهود التحديث وأفرغ المكتسبات الحقوقية والدستورية من محتواها بتواطؤ من النخبتين (إسقاط حرية الاعتقاد تحت تهديد الإسلاميين، هيئة المناصفة لم تر النور بعد .. ).
وحدها الحركة النسائية التي ظلت صامدة ومتمسكة بمطالبها وداعمة لجهود جلالة الملك من أجل إقرار المساواة والمناصفة. ولا يحتاج المتتبع للحياة السياسية في المغرب أي جهد ليدرك تخلف النخبة السياسية والنقابية والثقافية عن مسايرة جهود التحديث وأجرأة المكتسبات التي يضمنها الدستور، وفي مقدمتها مبدأ المساواة والمناصفة؛ بحيث إن تشكيلات المكاتب السياسية واللجان المركزية أبعد ما يكون عن تطبيق هذين المبدأين. وتتساوى في هذا الأمر الأحزاب والنقابات وهيئات المحامين والمهندسين والأطباء وغيرهم.
إن حادث منع التلميذة من الدخول إلى القسم أظهر، من خلال كمّ التعليقات المؤيدة لقرار المنع والمسوغات التي تسربل بها أصحابها وصاحباتها، مدى تغلغل إيديولوجيا الإسلام السياسي في المجتمع عموما، وفي الفئات المتعلمة التي تحسب نفسها ضمن التيار الحداثي والديمقراطي.
ذلك أن التعليقات، من حيث المضمون والمسوغات لا تختلف عن تلك التي يقدمها أعضاء تنظيمات الإسلام السياسي من حيث الأسلوب والمضمون؛ الأمر الذي يظهر بوضوح تأثير إستراتيجية الأسلمة على قيم وثقافة المجتمع حيث بات عموم أفراده يستبطنون نفس معايير الحلال والحرام التي يتشبع بها الإسلاميون والسلفيون الوهابيون، ثم يتخذون، بفعل تأثيرها على نمط التفكير، نفس مواقفهم العدائية أو الرافضة لقيم الانفتاح والعصرنة وحقوق النساء والأطفال (محسوبون على الثقافة والإعلام والجامعة هاجموا نساء يرتدين التنورات، طالبوا بمنع التطليق للشقاق، ساندوا إدارة المؤسسة في قرار منع التلميذة من دخول القسم ، انتصروا لخطباء متطرفين أوقفتهم وزارة الأوقاف عن الخطابة ، ينتصرون لجماعة تعلن سعيها لإقامة دولة الخلافة ..).
إلا أن الأخطر هو تصويت فئة من هؤلاء “الحداثيين” على مرشحي البيجيدي في انتخابات 2011 و2016 رغم علمهم بمواقف الحزب وقناعاته الإيديولوجية المناهضة لحقوق النساء والرافضة للحريات الفردية وحرية الاعتقاد والمطالبة بتطبيق أحكام الشريعة على الحياة الخاصة والعامة ،أي أسْلمة الدولة والمجتمع والأسرة (جاء مصطفى الرميد بمشروع القانون الجنائي يشجع ويشرعن جرائم الشرف ورغم ذلك احتل البيجيدي صدارة الانتخابات في 2016 ).
إن المسؤولية الوطنية تستوجب على كل الضمائر الحية أن تقوي مناعة المجتمع ضد الأسلمة والتطرف حفاظا على الهوية المغربية الأصيلة التي تسعى وتعمل تنظيمات الإسلام السياسي على طمسها (شريط فيديو بنواحي أزيلال أظهر عشرات التلميذات والتلاميذ في مدرسة قرآنية بلباس إيراني/أفغاني) .
وإذا كانت الدولة تتصدى بحزم لخطط التخريب العقدي والتهديد الأمني والروحي من طرف تلك التنظيمات، فإن ذلك لا يعفي بقية فئات المجتمع من مقاومة هذا التخريب والتهديد كل من موقعه (داخل الأسرة ، في المؤسسة، في الإعلام، في الإبداع والفنون ..).
إن معركة مقاومة التطرف ومواجهة الأسلمة معركة المجتمع بكل مكوناته.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=17695