محمد زاوي
بين ظهرانينا أصحاب إيديولوجيات سياسية سرعان ما استعادوا خطابا خلّفوه أكثر من عشر سنين، سرعان ما حمّلوا احتجاجات “جيل z” أكثر ممّا تحتمل من شعارات سياسية وإيديولوجية ومضامين اجتماعية.. هؤلاء هم أنفسهم الذين انطلت عليهم لعبة “الربيع”، وما زالوا ينظرون إليها إلى اليوم حدثا اجتماعيا بريئا لم يمسسه شيطان من “الاستهداف الأجنبي”. ولأنهم لم يفهموا حقيقة “الربيع”، فقد طفقوا اليوم يتكلمون في “احتجاج عادي” بأهوائهم، بنفسانيات العاجز عن إيجاد المسلك التاريخي لمجتمع واحد ودولة واحدة، لبنية إنتاج واحدة تتقدم موضوعيا لا في نفوس أفرادها.
كيف نفهم إذن احتجاجات “جيل z”؟ هذه مسائل نراها ضرورية كمداخل لمناقشة مستجد مركب:
1-حدث ما يسمى “الربيع” (2011)، ومعه حركة “20 فبراير”، يعبران عن وجود قابليات اجتماعية وسياسية للاحتجاج في الوطن العربي، إلا أن هذه القابليات لا تنفي وجود توجيه أجنبي (غربي) لهذه الأحداث. فقد كان هذا التوجيه أشبه بغرفة عمليات انكشفت حقيقتها في مذكرات سياسيي تلك المرحلة، كهيلاري كلينتون أو باراك أوباما؛ أو في مقابلات بعض السياسيين العرب، كأحمد أبو الغيط (وزير الخارجية المصري في عهد حسني مبارك) وحمد بن جاسم آل ثاني (وزير الخارجية القطري الأسبق).. وقد رأينا مع مرور الزمن كيف تحول “الربيع” إلى خريف في اليمن وسوريا وليبيا وتونس والسودان، وهو ما كانت ستبتلى به مصر لولا تحكم وتمكّن مؤسساتها السيادية.
2-الاحتجاجات الاجتماعية والمعارضة السياسية مظاهر وظواهر عادية وبديهية في مجتمعات متفاوتة اجتماعيا، وهذه حقيقة التاريخ مذ بدأ، لأن هذا التاريخ نفسه تأسس على أساس من التناقض الاجتماعي، فما كان التاريخ ليكون كما نعرفه إلا بذات التناقض.. الاحتجاجات ظاهرة تشهدها ـبين الفينة والأخرى- العواصم الغربية التي يعتبرها البعض نموذجا يحتذى في التحديث السياسي، ومثل ذلك ما شهدته المدن الإيطالية من احتجاجات عرفت عنفا متبادلا بين المحتجين والأمن خلال الأسبوع المنصرم. وليست أحداث “اقتحام الكابيتول” (عام 2020) عنا ببعيدة، وهي الأحداث التي شهدتها دولة تعتبر عريقة “ديمقراطيا” وفي ظل وجود مخاطر أكبر،، لعل أبرزها امتلاك فئات واسعة من الشعب الأمريكي السلاح.
3-هناك اختلاف بين الاحتجاجات المعاصرة وبعض أنواع الاحتجاجات “التقليدية/ الكلاسيكية”.. إننا بصدد تعبيرات تزداد هيستيريتها واستعدادها لممارسة العنف والخروج على جميع التقاليد والأطر النضالية والنقابية والسياسية كلما تقدمنا إلى الأمام تاريخيا في النظام الاجتماعي الرأسمالي، وهو نظام يفرض “قانونه” على جميع المجتمعات والبنى الإنتاجية في العالم.. وصل النظام الاجتماعي الرأسمالي إلى مرحلة “تعفنه”، إلى مرحلته الأخيرة في ما بعد الحداثة، فغدت ليبراليته سائلة.. وتلك سيولة لم تسلم منها التنظيمات اليسارية واليمينية نفسها، ولما سالت هذه التنظيمات لم تعد فضاءات للالتزام السياسي والتأطير الفكري، إذ أن شبابها أنفسهم معرضون للسيولة ومستعدون لممارسة كل أنواع الخروج عن الأطر التنظيمية في أي لحظة فارقة. سيولة الاحتجاج تعتبر انعكاسا لهذه السيولة العامة.
4-“المرء لا يسبح في النهر مرتين”؛ التاريخ متغير متحول باستمرار، فـ”التغير بما هو سيرورة، والتحول بما هو صيرورة” قانونان دائمان وملازمان التاريخ.. من يقول إن “الربيع” عاد، يردّد وهما كبيرا لثلاثة أسباب رئيسية:
*غياب تام للحاضنة الإقليمية في ظل ما شهدته المنطقة العربية من فتن واضطرابات جعلت المواطن العربي يميل إلى الاستقرار أكثر مما يميل إلى الاحتجاج.
*غياب الداعم والمساند الدولي، فالعالم كله يتجه نحو مركزة السلطة، ومن تجليات ذلك صعود ترامب وما يعنيه من انحسار للمنظمات الحقوقية العولمية، وصعود اليمين في أوروبا، والتعديلات الدستورية في كل من الصين وروسيا وتركيا على سبيل المثال.
*الفئات الاجتماعية الأساسية في المغرب غير منخرطة في “الاحتجاجات الجديدة”، فهل يتوقَّع انتشار هذه الاحتجاجات وتوسعها في ظل وجود طبقة وسطى وفئات دنيا لا ترى حاجة للانخراط فيها، بل قد تنظر إليها كعبء اجتماعي يعرقل مساعيها السياسية أو النقابية، أو الاجتماعية اليومية؟!
5-الحدود القصوى لاحتجاجات “جيل z” لا تخرج عن السيناريوهات التالية:
*استغلال مؤقت من طرف استهداف أجنبي يلعب أوراقه الأخيرة في مجتمع لا يعرفه ولا يعرف الميكانيزمات التي يشتغل بها، والتي ما زالت مؤثرة بشكل كبير في نفسانيات وذهنيات الشباب المحتج نفسه.. ناهيك عن تأثيرها في أوساطهم الأسرية والاجتماعية.
*توظيف سياسي وحزبي داخلي في فترة انتخابية تحتاج إلى محركات جديدة، وكذا من قبل بعض التنظيمات المعارضة والمقاطعة التي -ربما- تستعجل الحاجة إليها، أو تريد إثبات وتعزيز حضورها بمستجد اجتماعي أو احتجاجي.
*استجابة مباشرة أو غير مباشرة من قبل الدولة بفتح قنوات الحوار، أو بدراسة مطالب الحركة العفوية وخطابها وشعاراتها، والأهم من ذلك البحث عن الخلل الذي قد يجعلنا نُفاجأ على المدى المتوسط أو البعيد بجيل لا تحكمه مختلف النظم والتقاليد الوضعية والمدينة.
*تبدد الفعل بشكل تلقائي ما دامت حاضنته شبه منعدمة، وما دام وجوده قابلا للتفكك والتبدد.. وعندما نتحدث عن تبدد فعل “جيل z”، فذلك لا ينفي ما يمكن أن يؤدي إلى توترات طفيفة بين الفينة والأخرى.. وهو ما يقتضي التعامل مع المستجد بمقاربات متعددة، على المدى القريب (بالحوار والاستجابة وحفظ الاستقرار)، وعلى المدى المتوسط والبعيد (بإعادة إنتاج التأطير السياسي والثقافي).