د. حمزة النهيري
لطالما دعوت الباحثين في الحقل الأكاديمي إلى أن يعطوا في بحوثهم مجالا أرحب للدراسات المقارنة، لأن هذا النوع من الدراسات يمكن الباحث من التعرف على المناهج المتباينة بين العلماء، كما يمكن من معرفة الفروق النفسية والصفات الجامعة المشتركة بينهما، ولاشك أن الإمامين العالمين ابن تيمية وابن حزم جمعتهما صفات علمية ونفسية وخلقية مشتركة وباعدت بينهما المناهج في النظر والتفكير والفتوى.
فالإمام بن حزم من علماء القطر الأندلسي الأجلاء الذين تنقلوا في المذاهب الفقهية حتى استقر أمرهم على الانتصار للمذهب الظاهري القائم على نظرية معرفية خاصة تبتغي اليقين في الأحكام الشرعية وتنفر من كل طريق قياسي ظني يعتمد على التقليد و يؤدي إلى الظنون، وقد ذكروا من سيرته رحمه الله أنه اعتنق المذهب المالكي والشافعي ثم تركهما إلى المذهب الظاهري عن اجتهاد وتحقيق، وهو فعل غير واحد من الايمة كابن السمعاني والنواوي وابن دقيق العيد.
(راجع قول صاحب المراقي: أما التمذهب بغير الأول ففعل غير واحد مبجل..).
والمذهب الظاهري عرف انتعاشة فكرية بوجود هذا الإمام وهو يدعو إلى ترك التقليد جملة وإطلاقا، لذلك كان من الشطط نسبة بعض أقواله الاجتهادية إلى المذهب الظاهري مطلقا، بل أقواله تنسب إليه لا إلى الظاهرية.. لأن الظاهرية لا يقلد بعضهم بعضا.
تربى هذا الامام الجليل في بيت عز وجاه فقد كان أبوه وزيرا في الدولة الأموية، وتتلمذ على عدد من المشايخ في الأندلس، وهذا ما يفند دعوى بعض من يزعم أنه لم يتتلمذ على شيوخ في العلم، بل كان له شيوخ كثر كصاحبه وشيخه الحافظ بن عبد البر المالكي (راجع ترجمة تلميذه الحميدي)، ولكن عادة الجهال من الناس أن يصفوا كل عالم قوي الحجة بأنه لم يدرس عند الشيوخ، ويحضرني في هذا الصدد ما أشار إليه العلامة الشوكاني في أدب الطلب ومنتهى الأرب والعلامة ابن عثيمين في شرح الحلية.. من أن الشيخ لايعطي العلم لتلميذه إن لم تتوافر فيه صفات النباهة والتحصيل.
فلطالما تتلمذ الأغبياء على كبار العلماء ولم يستفيدوا منهم إلا الصلف والغلظة والتبجح بالتلمذة بين الأقران. (والغباوة والذكاء صفات في الانسان طبيعية لايلام عليها المرء وهي من الأرزاق الموزعة بين الناس)
ورب تلميذ أعلم وأنبه من شيخه، فالعلم المحصل يكون من جهد الطالب وليس من جهد العالم، وحسب العالم أن يقرر القواعد ويحرر الدلائل ويرسم المعالم وينير الطريق، أما قول الصوفية من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه فهي من المقولات التي تسربت إلى الناس فرددوها تقليدا دون معرفة لمقاصدها، فالشيخ في التصوف يعد ركنا أصيلا على خلاف بين أهل التصوف في ذلك (قواعد التصوف زروق- شرح ابن عجيبة على الحكم)، أما الحديث عن العلم والفقه فهو حديث عن معرفة للمعلومات وإدراك للقواعد مع معرفة النفس مالها وما عليها.
كان من صفات ابن حزم أنه كان ذا طبع حاد في العلم والمناظرة، وكان شديدا في الجدال الفقهي وهو ما اعترف به حيث رده إلى مرض أصابه في الطحال فقرر أن فساد الطحال ومرضه سبب في تغير الطباع وهو الذي تربى بين الجواري الجميلات والحياة الهادئة المترفة.
وفي مناظرة ابن حزم لأبي الوليد الباجي يروى أن أبا الوليد الباجي قال لابن حزم أعذرني فإني طلبت العلم على شمعة (إشارة منه إلى أنه كابد الفقر والمشقة في حياته) فما كان من ابن حزم إلا أن قال له اعذرني فأنا طلبت العلم والدنيا بين يدي أفعل بها ما أشاء، أو عبارة نحوها تشير إلى أنه حي حياة مترفة رغدة و أن طلبه للعلم لنفس العلم لا لغاية أخرى، وهو ما عدّه كثيرون انتصارا من ابن حزم على أبي الوليد في المناظرة وذلك موضوع آخر..
فكان ابن حزم شديدا في الجدال الفقهي حتى قالوا إن لسان ابن حزم وسيف الحجاج قرينان، وفي هذا السياق ننبّه إلى أن الطباع الحادة قد تغلب على بعض الناس مع تبحرهم في المعارف.
ومما يذكر عن الشيخ المغربي السلفي الظاهري تقي الدين الهلالي رحمه الله أنه كان رجلا حاد الطبع والمزاج، وفي خلقه غلظة وشدة، وهو راجع إلى الظروف المتقلبة التي عاشها وإلى بيئته الصحراوية التي نشأ فيها، وقد دار نقاش قديم حول هذا الأمر في ملتقيات الحديث..، ويروي لي بعض أصدقائنا الشيوخ الأجلاء ممن أدرك الشيخ تقي الدين الهلالي أن رجلا سأل الشيخ عن ابنه فذكر له أن ليس له إلا هذا الابن.. فما كان من الشيخ الهلالي إلا أن دعى على ابنه بالهلاك لأنه في نظره عبر عن حبه لابنه بما هو مخالف لعقيدة التوحيد!!
وفي جميع الأحوال فقد كان رحمه الله ظاهريا في الفتوى سلفي العقيدة كما قال شيخ مشايخنا حماد الأنصاري..، وينبغي جعل الشيخ في طبقة علماء الظاهرية المعاصرين.
فظهر من هذه الأخبار أن البيئة التي ينشأ فيها الإنسان تكون مؤثرة على منهج التحرير العلمي لدى العالم، حيث تظهر بين الفينة والأخرى في كتابات الأعلام حدة في الطرح مع أصالة أخلاقهم الإسلامية التي تظهر في سلوكهم النبيل وتضحياتهم الجليلة في نصرة العلم والدين.
وأنت إذا اختبرت احتبرت.
ولعل ابن تيمية يشارك ابن حزم في هذه الحدة، ولولا هذه الحدة التي طبعته لجمعت الناس عليه جميعا، ولكنه بشر يعذر، فالحسد والخصومات التي تعرض لها هذا الإمام شبيهة بما تعرض له ابن حزم رغم أنها كانت إيجابية وسببا في تواليف عظيمة من الفصل في الملل والنحل إلى الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
وفي قصة الشيخ الحنبلي المجتهد المطلق شيخ الإسلام ابن تيمية مع العالم المفسر الكبير أبي حيان الأندلسي ما يمكن أن نستشهد به في التدليل على الصفات المشتركة بينه وبين ابن حزم، وهي التي يمكن تلخيصها في العالمية والتبحر في العلم مع المزاج الحاد والخلق الرفيع.
فالمزاج الحاد لا يعني أنهم مفلسون في الأخلاق كما قد يفهم المتسرعون الذين يخلطون بين العلم و أمزجة أهل العلم.
فإنك تجد أصحاب الفهم السقيم يخلطون بين النقد العلمي الحاد و الخلق الحسن، فإذا مابزهم في الدليل من يخالفهم اتهم بقلة الأدب وما هو إلا الحسد وقلة الإنصاف الذي يحملهم على هذا القول وسيدركون لا محالة أن العلم هبة ربانية وتوفيق إلهي يهبه الله لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء.
كان أبو حيان يعظم من شيخ الإسلام ابن تيمية فلما ناظره في اللغة معترضا عليه في بعض اختياراته النحوية المخالفة لقول سيبويه قال له الإمام أسكت فإني خطأت سيبويه في ثمانين مسألة لا تعرفها أنت ولا سيبويه، وهذا كان سبب حط أبي حيان من ابن تيمية رحمهم الله جميعا.
وهذا مما يروى للدلالة على أن كثيرا من الردود العلمية يكون دافعها العقد النفسية والموقف من الآخر بسبب أمور حياتية لا يعلمها إلا الشخص ومن ينتقده.
فهذه صفات مشتركة بين الأئمة أحببت ذكرها حتى ندرك قيمة الطباع والنفسيات في تحرير مسائل العلم والمطارحات العلمية، والعلم رحم بين أهله ولا ينبغي لمن نصب نفسه للعلم أن يملأ صدره غلا وحسدا على إخوانه حين سبقوه في العلم أو كانت حجتهم أقوى من حجته في المناظرة، فالعلم فضل من الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وإني أجد في نفسي تحدثا بنعمة الله أنني لا أخلط بين المقامين، فلست ممن يحابي في العلم كما يعرف ذلك من عاشرني من أهل العلم..، ولكنني بمجرد الانتهاء من المطارحة أعود للصفاء الأخوي والمودة وهذا ما لا يفهمه كثيرون ولا يبلعونه للأسف، ولقد شهدت نماذج كثيرة من هذا القبيل فكان أحدهم يضرب رأسه في الحائط بعد أن أنتهي من مناظرته..، وبعض الأساتذة حمل علي سنوات لأنني ناقشته في مدرجات الكلية أمام الملأ فلم يقبل ذلك ثم لما جمعتني معه سفرات وأمور اجتماعية تغير حاله معي واعترف لي بأنه أساء الظن بي..، وإن كثيرا ممن يزعم العلم والحيدة ينتقد التصوف وظاهرة تقديس المشايخ و هويجيز لنفسه نقد الآخرين بغير أدب أحيانا ثم لا يقبل على نفسه أن ينتقده الناس بأدب.
وهذا من أمراض النفوس التي لا يداويها إلا طرق باب التزكية القرآنية والتربية على منهج القرآن.
و”قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”
فرحم الله أئمتنا ووفقنا لمنهج سلوك الوسطية والاعتدال في الطرح والنظر..
والحمد لله رب العالمين
المصدر : https://dinpresse.net/?p=12395