محمد عسيلة*
تُعد “إمارة المؤمنين” في المغرب نموذجاً فريداً يجمع بين الدين والسياسة ويؤسس لنظام حكيم يُعنى بتعزيز الاستقرار الروحي والديني وحماية ثوابت الإسلام الوسطي. هذه التجربة المغربية الممتدة منذ عهد المولى إدريس الأول، تعكس تراثاً دينياً وسياسياً غنياً يرتكز على مرجعية علمية، معرفية وعرفانية متكاملة. وقد أدت إلى تعزيز الوحدة الدينية في إفريقيا جنوب الصحراء، خصوصاً في الدول التي تربطها علاقات تاريخية بالمغرب، حيث يجد المغاربة مرجعيتهم الروحية في إمارة المؤمنين التي تضمن حماية هويتهم الدينية.
في ظل التحديات التي تواجه المسلمين في أوروبا، مع تنامي انتشار اليمين المتطرف والاسلاموفوبيا وخاصة في سياق العيش ضمن مجتمعات قانونية متطورة مثل ألمانيا، تُعد تجربة “إمارة المؤمنين” مرجعية مهمة. هذه التجربة يمكن أن تكون أداة لإعادة بناء خطاب ديني وسطي وثقافي ديناميكي يحافظ على الهوية الإسلامية من جهة، ويدعم الاندماج الإيجابي في المجتمعات الأوروبية من جهة أخرى.
إمارة المؤمنين في المغرب كنموذج، ذو أبعاد علمية ومعرفية لخدمة الوسطية والاعتدال تستند إلى تأصيل علمي وحضاري وشرعي وتاريخي وديني عميق، وهو ما يجعلها نموذجاً مرناً يمكن تكييفه وتقديمه كحل لتحديات المسلمين في أوروبا. ومن خلال منظومة قانونية تؤطر هذه التجربة داخل حدود الشريعة الإسلامية والدساتير الأوروبية، تمثل إمارة المؤمنين ضمانة للوسطية والاعتدال. هذه المقومات يمكن أن تستفيد منها المجتمعات الأوروبية، حيث يبحث المسلمون عن إطار يضمن حقوقهم الدينية ويُحافظ على هويتهم الثقافية، وفي نفس الوقت يعزز من قبولهم داخل مجتمعاتهم الجديدة التي وبسبب التغيرات الديموغرافية والأزمات واهتزاز اليقينيات وانتشار التخويف من الغيرية وشيطنة الآخر المختلف، أصبح العيش المشترك يتطلب نوعا من الحنكة والحكمة والفهم والتدافع.
في هذا السياق، تعتبر المملكة المغربية تحت القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله من الدول القليلة التي تجمع بين الإشراف السياسي والديني المباشر على الخطاب الديني، مما يمنع انتشار الفكر المتطرف ويعزز استقرار المجتمع. هذا النظام، إذا تم تكييفه وفق السياق القانوني الأوروبي، يُمكن أن يساهم في بناء مؤسسات دينية أوروبية مستقلة تدير شؤون المسلمين بعيداً عن التأثيرات الخارجية التي قد تُساهم في زعزعة استقرار المجتمعات.
وعليه ولإنجاح هذا المشروع في أوروبا، وخاصة في ألمانيا، يجب اعتماد آليات متعددة تضمن انتقال التجربة المغربية وتكييفها مع الواقع الأوروبي. هذه الآليات تشمل:
– تكوين الأئمة والعلماء: إنشاء برامج لتكوين الأئمة والمرشدين الدينيين الأوروبيين في إطار يُعزز من الوسطية والاعتدال. يمكن للمغرب، عبر “إمارة المؤمنين”، أن يكون شريكاً أساسياً في تقديم هذه التكوينات على أساس معرفي وعلمي، وفق منهجية تراعي الخصوصيات الثقافية والقانونية الأوروبية.
– خلق منصات حوارية وتواصلية: من الضروري بناء جسور للتواصل والحوار بين مختلف الفاعلين في المجتمعات الأوروبية. يمكن لإمارة المؤمنين أن تلعب دوراً فاعلاً في تنظيم موائد مستديرة ومنتديات للنقاش تجمع بين العلماء، السياسيين، والمفكرين من مختلف الثقافات لتعزيز التفاهم والتعايش السلمي.
-دعم التعليم الديني الوسطي: التعليم يُعد أحد الأدوات الرئيسية لنقل هذه التجربة، سواء عبر مؤسسات تعليمية محلية أو من خلال شراكات مع المؤسسات الأوروبية. برامج التكوين العلمي التي تعتمد على المرجعية المغربية يمكن أن تكون خطوة حاسمة في بناء خطاب ديني مستنير في أوروبا.
– التعاون مع الحكومات الأوروبية: من المهم إبرام شراكات قانونية ومؤسسية مع الجهات الأوروبية لتقديم هذا النموذج كنظام يحقق التوازن بين حماية الهوية الإسلامية وبين احترام القوانين الأوروبية التي تدعم التعددية الثقافية.
ولنقل تجربة “إمارة المؤمنين” إلى أوروبا نحتاج إلى مرونة واستراتيجية ذكية تستوعب تعقيدات السياق الأوروبي وفهم المخيال الأوروبي والتجربة التاريخية الأوروبية لكل دولة على حدة. يجب أن يُنظر إلى هذه التجربة لإمارة المؤمنين بعد نجاحها الكبير في إفريقيا جنوب الصحراء والساحل كإطار مرجعي ديناميكي يجمع بين الأصالة والحداثة والفهم المدني والرشاد، وليس كنظام إداري تقليدي سكوني، وذلك لضمان التماسك الروحي والديني للمسلمين -كمواطنين – في أوروبا.
ومع وجود الجاليات المغربية والإفريقية في دول مثل ألمانيا، يمكن لهذه الجاليات أن تكون سفيرة لنشر القيم الإسلامية الوسطية التي ترتكز عليها إمارة المؤمنين، مما يساهم في تعزيز الاندماج الإيجابي ويساعد في مواجهة التحديات المعاصرة مثل التطرف والإسلاموفوبيا.
إن نقل تجربة إمارة المؤمنين من السياق المغربي إلى أوروبا سيواجه عدة تحديات نحن واعون بها، تبدأ بالاختلافات الجذرية بين النظم القانونية والسياسية. في أوروبا حيث تتميز معظم الدول بفصل صارم بين الدين والدولة، مما يجعل من الصعب استنساخ تجربة إمارة المؤمنين بشكلها الكامل. هذا الفصل يؤدي إلى تساؤلات حول مدى قبول المجتمعات الأوروبية لمؤسسة تجمع بين الدين والسياسة. بالإضافة إلى ذلك، تتسم أوروبا بتعددية دينية وثقافية واسعة، مما قد يجعل تطبيق نموذج ديني موجه لفئة معينة مثاراً للجدل، خصوصاً في ظل حساسيات المجتمعات المحلية تجاه التمايز الديني.
من التحديات الكبرى أيضاً، هو غياب مرجعية دينية موحدة لدى المسلمين في أوروبا، حيث تختلف التوجهات الإسلامية حسب الخلفيات الثقافية والدينية للمهاجرين الأتراك مثلا والذين يتميزون بالحفاظ على النموذج التركي بشكل جد ضيق. وفي ظل وجود تيارات متطرفة أحياناً، يصبح من الصعب توحيد الخطاب الديني بطريقة مشابهة لما يتم في المغرب تحت إشراف إمارة المؤمنين. هذه التعددية تجعل من الضروري تقديم النموذج المغربي بشكل يتناسب مع التنوع داخل المجتمعات المسلمة الأوروبية دون فرض نموذج واحد.
كما يبرز تحدي آخر يتمثل في العلاقة بين المؤسسات الدينية في أوروبا والدولة. في معظم الدول الأوروبية، تخضع المؤسسات الدينية لإشراف حكومي صارم، ما قد يعيق استقلالية المؤسسات الدينية الإسلامية في حال تبني نموذج مشابه لإمارة المؤمنين. فالأمر يتطلب توازناً دقيقاً بين احترام القوانين المحلية والحفاظ على استقلالية الشؤون الدينية.
علاوة على ذلك، يتطلب نقل تجربة إمارة المؤمنين إلى أوروبا بناء شراكات قوية مع الحكومات والمؤسسات الأوروبية المعنية بالشؤون الدينية والتعددية الثقافية. هذا يستدعي مستوى عالٍ من التعاون والتفاهم بين الطرفين، وهو ليس بالأمر اليسير في ظل التوترات السياسية المتعلقة بقضايا الهجرة والتكامل الاجتماعي للمسلمين وفي ظل غياب محاورين مؤهلين التأهيل العلمي والثقافي واللغوي والنفسي كذلك.
إن “إمارة المؤمنين” هي أكثر من مجرد مؤسسة دينية وسياسية في المغرب؛ إنها نظام شامل يدعم الوسطية والاعتدال في الإسلام. وإننا نعتبر بوعي عميق حسب تجربتنا في ألمانيا أن نقل هذا النموذج إلى أوروبا، مع مراعاة القوانين الأوروبية، يمكن أن يكون حلاً عملياً لتعزيز التعايش السلمي وحماية الهوية الدينية للمسلمين وذلك عبر آليات تواصلية وتعليمية وحوارية، يمكن لهذه التجربة أن تقدم نموذجاً يُسهم في مواجهة التحديات المعاصرة التي تواجه المسلمين في أوروبا، وخاصة في ألمانيا.
في ظل هذه التحديات، يبقى السؤال المطروح: كيف يمكن لإمارة المؤمنين أن تلعب دوراً فاعلاً في دعم المسلمين الأوروبيين من خلال نموذج وسطية واعتدال يتوافق مع القوانين المحلية ويحترم التعددية الثقافية، دون أن يُثير المخاوف أو يتعارض مع المبادئ العلمانية التي تقوم عليها الدول الأوروبية؟
وهذا بالتحديد هو الدور الذي يجب أن يلعبه الفاعل المدني المغربي؛ العمل على تعزيز قيم الوسطية والاعتدال في المجتمعات الأوروبية، بما يسهم في رفاه هذه المجتمعات، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية، وبناء جسور التفاهم والحوار التي تساهم في خلق بيئة تعايش وسلم مجتمعي.
على الوزارات والمؤسسات المغربية الوصية أن تولي اهتماماً كبيراً لهؤلاء الفاعلين الذين يمتلكون فهماً عميقاً لديناميات المجتمعات الأوروبية، ولديهم تجربة راسخة في العمل التربوي والأكاديمي والثقافي وعليهم توافق مجتمعي ومؤسساتي، وكذلك في المجتمع المدني. فهم في اعتقادنا الشخصي يشكلون جسراً مهماً لتعزيز الهوية المغربية والدينية في الخارج، ويمكنهم أن يلعبوا دوراً محورياً في تنزيل قيم الوسطية والاعتدال في تلك المجتمعات بشكل يتوافق مع القوانين والثقافات المحلية.
ــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21077