محمد المهدي اقرابش
لا شك في أن السيرة النبوية هي من أشرف العلوم لأنها تعنى بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومراحل حياته وبعثته ودعوته وهجرته وغزواته وبعوثه وسراياه وأصحابه من المهاجرين والانصار. إنها ترجمة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم وما فيها من أخبار وأقوال وافعال وتقريرات وسيرة خلقية وخلقية وماتتضمنه من شمائل وخصائص نبوية.
ولقد تقرر أن واضع هذا العلم هو الإمام العَلَمُ عروة بن الزبير وهو من كبار التابعين ومن الفقهاء السبعة. روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجاءت بعض رواياته في الصحيحين وغيرهما من طريق ابنه هشام بن عروة وأبي الأسود وقد استخرج الشيخ الهندي محمد مصطفى الأعظمي روايات عروة في المغازي من طريق أبي الأسود في كتاب مطبوع بالرياض. ثم جاء بعد عروة بن الزبير تلميذه الإمام محمد بن إسحاق فأسس هذا العلم وهو إمام معتبر في السيرة رغم رد الإمام مالك لكثير من أقواله. ولكن الإمام البخاري جعله على شرطه فأخرجه في الصحيح أما الإمام مسلم فلم يفعل ذلك.
ألف الإمام ابن إسحاق وهو من كبار الحفاظ كتابه المنتقى في السير ولم يعتن فيها بالأسانيد ولا التصحيح ومنهج طائفة من العلماء التساهل في أحاديث السيرة. ثم جاء ابن هشام الحميري البصري فهذب سيرة ابن إسحاق وحذف إسرائيليات وأثبت قصصا وأشعارا مع تعليقات عليها من حيث القبول والرد فصارت سيرة ابن هشام مرجعا لكثير من الفقهاء والمؤرخين.
ومن بين من دون في المغازي والسير محمد بن عمر الواقدي المختلف فيه وقد كان يجلس إلى مالك فيحدثه ويسأل دون ان يرد عليه. ومع هذا فهو متروك عند اهل الحديث مع انه من كبار الائمة. وفي ترتيب المدارك للقاضي عياض قال القاضي وكيع: “كان الواقدي
من المتسعين في العلم”. ألف الواقدي كتاب السير الكبير وكتاب السير الصغير وكتاب فتوح الشام ولم يصل إلينا للأسف إلا كتابه الأخير فتوح الشام وكتاب المغازي النبوية وهو مطبوع. وجاء بعده كاتبه وتلميذه محمد بن سعد صاحب الطبقات وقد وثقه الإمام النووي.
واشتهر في زمان التابعين موسى بن عقبة برواية السير والمغازي وقد نُشِرَ بتحقيق محمد الطبراني عضو المجلس العلمي الأعلى للمملكة المغربية. وكذلك المعتمد بن سليمان وابوه سليمان بن بلال وابو سهيل نافع بن مالك بن ابي عامر عم الإمام مالك بن انس. ثم صارت السيرة جزءا من علم الحديث كما فعل البخاري في صحيحه.
وقد خالط هذا العلم علم الرجال كما هو الشأن بالنسبة لكتب الطبقات أخص بالذكر طبقات ابن سعد. وجاء بعدهم الإمام المفسر ابن جرير الطبري فألف في التاريخ الاسلامي كتابه الماتع والفريد تاريخ الرسل والملوك والمعروف بتاريخ الطبري فجمع قصصا مروية كثيرة ولم يستثن منها تلك المروية عن المتروكين والضعفاء ولايعني هذا طرحها وانما الاستئناس بها وتقويتها من طرق وأدلة وشواهد اخرى ان أمكن ذلك.
قال العراقي “وليعلم الناظر ان السير تضم ما صح وما قد نكرا”.
وتوالت الكتب والمؤلفات في السيرة والسير فألف ابن سيد الناس كتابه عيون الاثر في المغازي والشمائل والسير فكان من أحسنها ترتيبا اعتنى به القسطلاني في كتابه المواهب اللدنية في السيرة النبوية وقد شرحه محمد عبد الباقي الزرقاني وأعتمد عليه صاحب سبل الهدى والرشاد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي بالتأصيل محاولا ان يدلل السيرة بالقران والسنة.
وألف الإمام الذهبي كتاب تاريخ الإسلام وكتاب العبر وهي شبيهة بتاريخ الطبري. واعتنى بعده الإمام ابن كثير بالسيرة من خلال البداية والنهاية وألف الفصول في سيرة الرسول والتاريخ الإسلامي الكبير والشمائل النبوية وألف ابن الأثير كتابه الكامل في التاريخ وكتاب السير.. تجدر الإشارة إلى أن الكثير من المؤلفين في السيرة قد اعتمدوا على ابن إسحاق والواقدي كالدمياطي في السيرة وابن عبد البر في كتابه المختصر في السيرة وابن قدامة في كتابه السيرة والخزاعي الأندلسي في كتابه الكبير: كتاب السير وشيخ الإسلام أبي إسحاق الفزاري في كتابه السير. ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني ودلائل النبوة للبيهقي.
أما كتاب الشفا للقاضي عياض فهو أعجوبة الزمان وهو كتاب علمي عقد فيه أبوابا لم يتطرق اليها اصحاب السير من قبل فذكر حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وهي:
محبته وطاعته وتصديقه وتوقيره والدفاع عنه كما ذكر صفاته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم وقد اشتهر في الافاق حتى قيل لولا الشفا لما عرف المصطفى ولولا الشفا لماعرف المغرب. يقرأه العلماء ضمن أورادهم ودروسهم في ربيع الاول وفي غيره من الشهور. فأكرم بعالم مثل القاضي عياض اليحصبي السبتي فهو قاضي المرابطين وصاحب المصنفات البديعة كترتيب المدارك وإكمال المعلم والتنبيهات على المدونة ومشارق الانوار لشرح غريب الصحيحين والموطأ ونال هذا الكتاب الأخير إعجاب ابي حيان الأندلسي فقال:
مشارق أنوار تبدت بسبتة ********* فواعجبا تبدو المشارق في الغرب
وحقا كتاب الشفا شفاء للروح وإرواء للغليل لمن أراد معرفة حقوق المصطفى على أمته.
ومن بين ما ألف في السيرة ألفية العراقي ولو لم تشتهر شهرة ألفيته في علم مصطلح الحديث ومنظومة ابن ابي العز الحنفي ونظم الغزوات لأحمد البدوي الشنقيطي بشرح انارة الدجى لحسن المكي وكتاب الشمائل المحمدية للترمذي ومن الشروح النافعة للشمائل المحمدية شرح جسوس وحاشية بنيس وفيها من أشعار وحكايات قد تصل أحيانا إلى المبالغة في رأي من لا يرى بالمعاني الإشارية كما نجده عند بعض المتصوفة.
ومن الكتب المهمة في السيرة نذكر كتاب زاد المعاد وهو من أعظم كتب الإمام ابن القيم جمع فيه بين السيرة والفقه واعجب من كتاب ألفه صاحبه من حفظه وفي طريقه إلى الحج!
وكتاب الإمام السهيلي نفعنا الله ببركته والموسوم بالروض الأنف لخص وشرح فيه سيرة ابن هشام مهتما بالنحو والبيان والعلوم اللغوية والإمام السهيلي منسوب إلى جبل سهيل بالأندلس وهو ولي عارف بالله دفين مراكش وهو صاحب الدعاء المستجاب والعينية التي مطلعها: يامن يرى ما في الضمير ويسمع.
وكتاب الخصائص الكبرى لجلال الدين السيوطي وكتاب سفر السعادة لمحمد بن يعقوب الفيروز بادي وقد أضاف فيها الى سيرة النبي اذكارا وأدعية نبوية، وكتاب إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون المعروفة بالسيرة الحلبية لعلي بن برهان الحلبي وكتاب العواصم من القواصم للقاضي العربي المالكي المعافري دفين فاس. وكتب المدائح كديوان البرعي اليمنيّ والبردة والهمزية للبوصيري. والرحيق المختوم لصفي الدين المباركفوري وفقه السيرة لمحمد الغزالي وفقه السيرة لمحمد سعيد رمضان البوطي وفي مجال القصص عبد الرحمن الباشا خاصة في كتابه صور من حياة الصحابة وكتاب صور من حياة التابعين وكتاب تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام بن هارون وكتاب تطبيق منهج الحديث على السيرة لأكرم ضياء العمري وكتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للشيخ مصطفى السباعي وكتب الشيخ الهندي العالم والمتفنن محمد مصطفى الأعظمي وتعقيبه ورده المفحم على المستشرقين أمثال جولد تسيهر ومرجليوث وجوزيف شاخت. ولقد سبق ان شاركت في ملتقى دولي لمدة عشرة أيام في إطار الاسلامولوجيا أو الاستشراق وكان ممولا من وزارة الداخلية الفرنسية ووزارة التعليم العالي وبشراكة مع جامعة السوربون وجامعة ايكس مارسيليا.. كانت المداخلات والمحاضرات متعددة ومتنوعة من بينها مداخلتي حول السياسة الشرعية والقانون الدستوري في المغرب كنموذج وزملاء آخرون منهم مصريون وإيرانيون وجزائريون وتونسيون وأتراك وفرنسيون وإيطاليون وغيرهم قدموا ورقات حول الاستشراق ودلائل النبوة في الإسلام أما القائمون على تسيير وتأطير الندوات والبحوث فهم الأستاذة آن بواليفو سيلفي وهي مختصة في القرآن الكريم وبول هيك أستاذ الأديان والدراسات الإسلامية بجامعة جورج طاون بواشنطن وستيفان ريشموت أستاذ الاستشراق والأدب العربي والعلوم الإسلامية بالجامعة الألمانية غوا بوخوم الألماني. ولقد قرأت أعمالا منصفة وأعمالا اخرى غير دقيقة وغير منصفة بل تكون أحيانا بعيدا عن الموضوعية والتجرد!
لا يمكن إحصاء كل كتب السيرة أو المتعلقة بها ولكن مرجعها كلها إلى القرآن وكتب السنة وروايات ابن إسحاق والواقدي.
تتجلى فائدة السيرة النبوية في معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة آل بيته وصحبه وما يقتضي ذلك من محبته وطاعته وتصديقه واتباع هديه. فالسيرة هي نبراس ونجم نهتدي به في حياتنا العامة والخاصة وفيها دروس وعبر يستخلصها المؤمن عند استقرائه للواقع وبحثه عن الحلول للمشاكل التي قد تعترض الفرد والجماعة في أمور الدنيا والدين. فالمسلم ينبغي ان يعرف نبيه ويرفع الجهل به.
وعليه فإن المراجع والكتب التي ذكرت والتي لم أذكر تسعى إلى بسط السيرة أو السِّيَر بدءا من الخلق وإهباط آدم وزوجه إلى الارض وتاريخ مكة والقبائل التي تداولت عليها وذكر اجداد النبي صلى الله عليه وسلم واصطفاء الله لإبراهيم من ذرية آدم واصطفائه كنانة من ذرية إسماعيل وقريشا من كنانة وبني هاشم من قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم فهو خيار من خياركما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانتساب أمته إليه عز وفخار بلا ريب.
تعرض السيرة إرهاصات النبوة كقصة الفيل وانطفاء نار الفرس وتصدع الإيوان ورؤيا الموبذان التي نسيها في النوم فذكره بها الكهان. كما تعرض السيرة المعجزات النبوية وأعظمها القرآن الكريم وانشقاق القمر والسنة وما تضمنت من أخبار الغيب كفتح كنوز كسرى وقيصر وبلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار وغيرها.
وتذكر السيرة خصائصه النبوية الكونية التي تميز بها صلى الله عليه وسلم كالجلال والتعظيم والهيبة والجمال صورة وروحا. وعدم احساسه بالجوع والعطش لان الله يطعمه ويسقيه والغمامة التي تظله. وتذكر خصائصه التشريعية الخاصة به وجوبا وفرضا كقيام الليل وتحريما كالدرن والأوساخ واباحة كتعديد الزوجات إلى ان توفي صلى الله عليه وسلم عن تسع.
وختاما لابد من ذكر احتفاء واهتمام الملوك العلويين بسيرة النبي المصطفى الأمين عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد اشترط السلطان مولاي محمد بن عبد الرحمن بن هشام العلوي رحمه الله ضرورة انعقاد مجلس يومي لدراسة السيرة النبوية معتمدين على كتاب الاكتفا لأبي الربيع الكلاعي ومنظومات المدائح النبوية. وأنشيء في عهد السلطان مولاي رشيد رحمه الله ما يسمى بنزهة سلطان الطلبة محتفيا بطلبة العلم مهتما بختم كتاب الشفا للقاضي عياض. وعُرف السلطان سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل رحمه الله بتأليفه في علوم الدين وكان السلطان أبو زيد عبد الرحمن بن هشام رحمه الله يختم البخاري ويأمر بمدارسة ومذاكرة السيرة النبوية وقام السلطان مولاي عبد العزيز بن الحسن رحمه الله بإصدار أمره بتعيين جماعة من أعيان علماء فاس لسرد صحيح البخاري والشفا كل صباح بالضريح الإدريسي.
وأمر السلطان مولاي عبد الحفيظ رحمه الله بطباعة مجموعة قصائد وأمداح من إنشاد جلالته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وبطباعة الروض الأنف في مجلدين. وقد أصدر الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه أمره بتحقيق وطباعة مجموعة كثيرة من الكتب في الفقه والحديث والسيرة وفي العهد المحمدي الزاهر أمر أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله المجلس العلمي الأعلى واللجنة الدائمة لإحياء الثرات بتحقيق وطباعة كتب الفقه والحديث والسيرة. وأخص بالذكر خطاب أمير المؤمنين للمجلس العلمي الأعلى لعام 2004 والذي أمر فيه حفظه الله بخدمة كتاب الموطأ تحقيقا وطباعة فهو كتاب فقه وحديث وسيرة. ثم خطابه الصادر يوم 22 ربيع الأول هجرية/ الموافق ل 15 سبتمبر 2025 م حيث وجه فيه المجلس العلمي الأعلى إلى الاحتفاء والعناية بالسيرة النبوية دراسة وتدريسا وتحقيقا وطباعة بمناسبة مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم. فأكرم بسليل بيت النبوة يناصر وينشرسنة سيد الأنبياء والمرسلين.
قال الله تعالى: “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا”.
وقال سبحانه وتعالى: “يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا”.
اللهم صل على سيدنا محمد النبيء الامي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم.