محمد زاوي
المكي والمدني؛ علم من علوم القرآن. تُعرَف به الآيات والسور التي نزلت في مكة أو تلك التي نزلت في المدينة المنورة، كما تُعرَف به أحكام كل منهما وكيف تم عرضها بين مكة والمدينة. إن هذا العلم الذي بقي عند كثيرين حبيس علوم القرآن ودراساتها ليُعد مدخلا مهما من مداخل السيرة النبوية. إنه يخبرنا بوضوح عن حال النبي في مكة، ثم بعد هجرته إلى المدينة.
المرحلة المكية نفسها يمكن تقسيمها إلى مرحلتين: مرحلة الاندهاش الوجداني، وأخرى للدعوة والتحدي والترغيب والترهيب واستدعاء القصص وهي التي بدأت بنزول سورة الكهف. يقول بلاشير إنه “خلال الفترة (المكية الأولى) لا نجد لموضوع النبي المبشر في الصحراء إلا معالجة مشتتة، لكن الأمر كان على خلاف ذلك خلال الفترة الثانية. ويقدر ما كانت تزداد عداوة المشركين في وجه محمد، كان هذا الموضوع يشتد حماسة تفرضها المصادفات، ولكي تبلغ الدعوة غايتها، كانت ترجع إلى قصص أو أساطير معروفة في الجزيرة العربية”. (بلاشير، القرآن: نزوله-تدوينه-ترجمته وتأثيره، ترجمة: رضا سعادة، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، 1974، ص 55)
وفي المرحلة المدنية أصبحت الدعوة النبوية أكثر ارتباطا بالتاريخ وتدبير شؤون المجتمع الجديد. وهنا سيعبر النص المدني عن تناقضات المجتمع الجديد (الأوس/ الخزرج؛ المشركون/ المؤمنون/ المنافقون؛ المسلمون/ اليهود؛ المهاجرون/ الأنصار) وعن تناقضه مع الخارج (قريش ومن خالقها/ الروم). في هذه المرحلة تكاد تختفي إيقاعات الوجدان لتخلفها النصوص الحُكمية الصارمة والطويلة (تستمد صرامتها من مطلوب الأمر). وهذا ما يؤكده بلاشير بحديثه عن “الارتباط القائم بين تاريخ الأمة المدنية وبين المنزلات التي تلقاها محمد في المدينة، فإنه كان في جميع الظروف يتلقى من السماء التوجيهات التي تمكنه من مجابهة الصعوبات أيا كان نوعها، فيعمل على تلافيها وحلها”. (نفسه، ص 68)
كل هذا مقبول وقد أشارت إليه بعض علوم القرآن ك”أسباب النزول” و”المكي والمدني”؛ إلا أن السؤال الذي لا يقف عنده بلاشير مليا هو: من أوحى للنبي بوجدان “خالص” في مكة وآخر “تاريخي” في المدينة؟ ظاهرة قال عنها جورج حنا في كتابه “قصة الإنسان” إنها “ظاهرة محيرة”، فلماذا لم ترتفع حيرتها بالمعرفة الحديثة إلى اليوم؟!
****
ينهج بلاشير نهجا يحاول من خلاله قراءة تاريخ السيرة النبوية في القرآن. يبحث عن حدث تاريخي من بين ثنايا الخطاب القرآني، لعله يجد ما يملأ به ثغرات التوثيق التاريخي. خاصة عندما يتعلق الأمر بالقرآن المدني، فإن بلاشير يبحث تحت آياته أو فيها عن واقع المدينة (واقع الإسلام في المدينة).
من أجل ذلك يقول بلاشير: “لا شك أننا يجب ألا نتوقع من المصحف أن يمدنا بتاريخ هذه الأمة أو ببيان الظروف التي أخرجت فيها هذه الأمة صيرورتها، وأقل ما يجوز أن نقترحه، هو أن النصوص المدنية قد حفظت لنا بشيء من الوضوح معالم علاقات غامضة ولكنها نافذة، موجودة بين الوقائع وبين أصدائها في الوحي”. (بلاشير، القرآن: نزوله-تدوينه-ترجمته وتأثيره، ص 68)
هذه المحاولة هنا شبيهة بما دعا إليه عبد الله العروي في كتابه “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، تلك التي أسماها ب”النقد الإيديولوجي”، والتي تبحث عن التاريخ في نصوص القرآن والسنة. يدعو العروي إلى الكشف عن الحدث التاريخي بين ثنايا التعبير القرآني، عوض القول باستحالة السيرة، وعوض ملء ثغراتها بتأويلات متعسفة.
تنتج هذه القراءة نوعا من التمييز بين المكي والمدني، لأن الأخير أكثر إظهارا للحدث التاريخي من الأول. الوجدان أكثر انفصالا عن التاريخ من السياسية، كذلك هي العقيدة والعبادة مقارنة بالحكم الفقهي في المعاملة. وهذا ما يسميه العروي في “السنة والإصلاح” يتراجع الوجدان أمام التاريخ في الزمن المدني.
(يتبع)