ترجمة يوسف اسحيردة
ما يثير دهشة الفيلسوف الفرنسي المعاصر منذ أسابيع، ليس هو الخطورة المرتبطة بكوفيد-19، ولكن حجم الهلع الإعلامي المرافق له. في هذا الحوار يتحدث عن ذلك. وارتباطا بأزمة كوفيد-19، يقوم باستحضار أهم كتابين له: “رسائل صغيرة حول الفضائل الكبيرة”، و”هل الرأسمالية أخلاقية؟”.
الصحفي: السؤال الأول سيكون شخصيا : كيف تعيشون وباء كوفيد-19، الحجر، إمكانية المرض، الخ.؟
أندريه كانت سبونفيل: أمضي فترة الحجر في باريس، رفقة زوجتي. ونحن نهنئ أنفسنا كل يوم لتواجدنا معا وتمتعنا بصحة جيدة. فيما يخصني، بما أن سؤالكم موجه لي، فأنا مطمئن. أولا لأني كلما تقدمت في السن كلما أصبحت أقل خوفا من الموت. الأمر عادي في نظري: الموت في سن الثامنة والستين يُعتبر أقل إثارة للحزن من الموت في سن العشرين أو الثلاثين. ثم لأن هذا المرض يظل حميدا في ٪80 من الحالات، وقاتل فقط في 1 أو ٪2 – أو ربما 5 أو ٪6 بالنسبة للأشخاص الذين هم في مثل سني. الاحتمال الأكبر، بكثير، حتى وإن أصابني الفيروس، هو أنني سأنجو منه! وإن لم يحدث ذلك، حسنا، يجب على المرء أن يموت في يوم من الأيام جَرَّاء شيء ما، وشخصيا أحب أن أموت بسبب كوفيد 19 على أن أمضي بقية حياتي مصابا بالزهايمر أو طريح الفراش، كما رأيت الكثير من ذلك من حولي…وأخيرا، أنا مطمئن على وجه التحديد لأن أطفالي الثلاثة، والذين أصبحوا شبانا بالغين، هم أقل عرضة مِنِّي للمضاعفات. بالنسبة لرب أسرة، هذا هو الأهم.
الصحفي: هل تفاجأت من حجم و خطورة الأزمة؟
أندريه كانت سبونفيل: خطورتها الحقيقية لم تفاجئني فعلا. فقد سبق لأخصائي في الأمراض المعدية أن أخبرني، وذلك قبل حوالي 20 عاما، بأن الحرب الأبدية بين البشر والميكروبات ستنتهي لصالح هذه الأخيرة: فهي تملك لصالحها العدد، والوقت، والتأقلم، وتحولات غير محدودة وسريعة…لا أعرف ما إذا كان محقا، لكن ما قاله شحذ تفكيري وأعَدَّني ربما لاستقبال ما نعيشه اليوم. كنت أعتقد دائما بأن البشرية ستختفي يوما، سواء كان ذلك بسبب فيروس، أو بكتيرية، أو نيزك، أو حرب نووية، أو الاحتباس الحراري. بجوار كل هذه الكوارث الممكنة، يبقى كوفيد-19 مشكلا قابلا للتجاوز ! الحديث الدائر اليوم في أوروبا يلمح إلى أن عدد الذين سيلقون حتفهم بسبب الفيروس سيكون بالملايين، وهو ما يمكن اعتباره حدثا كارثيا. هذا ما يسعى الحجر الصحي أن يُجَنِّبَنَا إيَّاه – وسيجنبنا إيّاه إذا ما انصاع الجميع لتعليماته بصرامة.
ولكن في نهاية المطاف البشرية عرفت ما هو أفظع ! لِنُذَكِّر بأن الطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر ميلادي، قد قتل أكثر من نصف ساكنة القارة العجوز آنذاك، أي ما يعادل حوالي خمسة وعشرين مليون شخص. وبأن سوء التغذية يقتل، في عصرنا هذا، ما يناهز تسعة ملايين شخص سنويا، من بينهم ثلاثة ملايين طفل. لماذا نتحدث كثيرا عن العشرة آلاف الذين قضوا في ايطاليا، و الثلاثة آلاف الذين ماتوا في فرنسا، والخمسمائة الذين توفوا في بلجيكا، وقليلا جدا عن هؤلاء التسعة ملايين شخص؟ الأمر راجع في جانب منه، إلى أن كوفيد-19 مرض حديث، وعادة ما يزداد خوف المرء مما يجهله. وفي جانب آخر منه راجع، وإن كان هذا الأمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية، إلى أن سوء التغذية يَقْتُلُ في بلدان أخرى غير بلداننا…أعرف أن هذا الوباء، لأنه عالمي ومحدود زمنيا، يحتفظ بشيء من الفرجوية الزائدة. ومع ذلك، فستمائة ألف شخص يموتون سنويا في فرنسا، ضمنهم مئة وخمسون ألفا بسبب السرطان. على أي أساس يمكن اعتبار الوفايات الناجمة عن كوفيد 19 أكثر أهمية من هذه الوفايات ؟
الصحفي: هل هذا معناه أن كوفيد-19 ليس بتلك الخطورة التي نتصورها؟
أندريه كانت سبونفيل: مرض من شأنه الفتك بملايين البشر، هو بلا شك مرض خطير. لكن، هل من أجل ذلك، لا يجب الحديث سوى عنه؟ أُنظر إلى نشراتنا التلفزيونية. الحرب في سوريا؟ لا أخبار ! المهاجرون؟ اختفوا من الشاشات! الاحتباس الحراري؟ نُسي بالكامل! نعم، كورونا فيروس خطير جدا. لكن الاحتباس الحراري، في نظري، أشد خطورة. حذارِ من السقوط في التضخيم ! بالأمس سألني صحفي، ما إذا كان مرض كوفيد-19 هو نهاية العالم…لك أن تتخيل! 1 أو ٪2 كمعدل وفاة – وبلا شك أقل من ذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عدد الحالات التي لم تُكتشف-، والناس شرعوا في الحديث عن نهاية العالم ! باختصار، ما يصدمني، ليس هو خطورة كوفيد-19 بالذات، وإنما نوع الهلع الإعلامي الذي يرافقه، وكأن الصحفيين أدركوا فجأة أَنَّنَا فانون. يا له من سبق صحفي !
الصحفي: بماذا تخبرنا الفلسفة بهذا الصدد؟
أندريه كانت سبونفيل: أن الموت جزء لا يتجزأ من الحياة. مونتين عبَّر عن ذلك بشكل رائع : ” لا يموت المرء بما هو مريض، وإنما بما هو حي”. الأغلبية تريد نسيانه، كما يُلاحظ الفيلسوف: “إنهم يذهبون، ويجيئون، ويهرولون، ويرقصون: عن الموت، لا أخبار. كل هذا جميل. لكن أيضا، عندما يأتي سواء إليهم أو إلى زوجاتهم، أطفالهم وأصدقائهم، وبما أنه يباغتهم فجأة ودون حماية، فأي عذابات، أي صرخات، أي غضب وأي خيبة أمل تستولي عليهم. هل سبق وعشتم قط ما هو أشد حَطًّا، وأشد تَغييرا، وأشد إبهاما؟”. اليوم نحن هنا. لو أننا كُنَّا نفكر باستمرار في الموت، لجعلنا هذه الفترة مُناسبة من أجل مزيدٍ من حب الحياة، وعيشها بكثافة أكبر، وبأقل ذعر من هذا الوباء. الحس التراجيدي هو بمثابة ترياق ضد الخوف. باختصار، أحمل خبران لقرائكم، واحد سار والآخر سيئ. الخبر السيئ هو أننا سنموت جميعا. الخبر السار هو أن الأغلبية الساحقة مِنَّا ستموت من جراء شيء آخر غير كوفيد-19.
الصحفي: لزمن طويل توحَّدنا حول مجموعة من القيم الأخلاقية والدينية. الأمر الذي بات قليلا. غير أننا اليوم، نشعر أن جماعات عادت لِتَتَلاَحَمَ من جديد حول فضائل من قبيل الكرم، الشفقة، الامتنان والوداعة. هل ينبغي أن نغرق في الفوضى حتى نستشعر أهمية مثل هذه الأمور؟
أندريه كانت سبونفيل: دائما في مواجهة الشر حيث يستشعر المرء الحاجة الماسة إلى الخير. ليس غريبا أن تستعيد هذه الفضائل نوعا من الراهنية ! بيد أنه لا يجب علينا المبالغة، كما لو أن فيروس كرونا، بهذا الصدد أيضا، قد غيَّر كل شيء. إن هذه الفضائل لم تُنسَ أبدا بالكامل. أُنظروا إلى شَهرة الأب بيير أو النجاح الذي تحققه مطاعم القلب منذ عشرين سنة….بالمناسبة، إذا كان كتابي “رسائل صغيرة حول الفضائل الكبيرة”، قد حقق كل هذا النجاح، قبل ربع قرن، فهذا لأن الناس يحسون جيدا أن هذه القيم ليست رهينة عصر بعينه. فهي تُواصل إنارتنا منذ ما يزيد عن ألفي عام، كان هناك وباء أم لم يكن !
الصحفي: في هذه “الرسالة الصغيرة”، تشرحون بأن التعاطف ليس هو الرحمة لأنه يُمارس بطريقة أفقية، بين الأقران، وليس من فوق إلى تحت. في مواجهة الفيروس، نحن متساوون، أي كُلُّنا ضعفاء…وفانون. هل هذا ما يُفسر الزخم التعاطفي الذي نشهده اليوم؟
أندريه كانت سبونفيل: التعاطف لم يبدأ مع فيروس كورونا !بلا شك تَتذَكَّرون صورة ذلك الطفل الصغير ذو الثلاث سنوات، الذي عُثر عليه ميتا على شاطئ، والمشاعر التي خَلَّفَهَا عبر كل أنحاء العالم ! لماذا سنكون مجبرين على التعاطف مع ضحايا كوفيد-19 أكثر من المهاجرين الذين يقضون غرقا في البحر الأبيض المتوسط، أو حتى مع مَوَاطِنِينَا الذين يموتون بسبب السرطان، والذي هم (لحدود الساعة) أكثر عددا من ضحايا فيروس كورونا؟
الصحفي: تملكون كتابا آخر بعنوان “هل الرأسمالية أخلاقية؟” أطرح عليكم السؤال….ولنفترض أنها ليست أخلاقية، أو ليست أخلاقية بما يكفي، هل من الواجب “تخليقها”، على ضوء ما نعيشه اليوم؟
أندريه كانت سبونفيل: هي ليست كذلك – الأخلاق لا تعنيها. لهذا يجب فعلا تخليقها، ليس من خلال جعلها فاضلة من الداخل، وهذا مستحيل، ولكن من خلال تحديد خارجي – عن طريق القانون – لعدد من الضوابط غير السوقية وغير القابلة للتسويق. هذا ما نفعله منذ مئة وخمسين عاما على الأقل: أُنظروا إلى الحريات النقابية، إلى قانون الشغل، إلى الإجازات المؤدى عنها، إلى التقاعد، إلى التأمين الاجتماعي… يجب طبعا المواصلة على نفس هذه الوتيرة، وخَيْرًا فعل كوفيد-19 إذْ يُساعدنا على تَذَكُّرِ ذلك. لكن لا يجب التعويل على التعاطف من أجل أن يخلق الثروة، ولا بالتالي من أجل أن يقوم مقام الاقتصاد. بهذا الصدد، يراودني الخوف بخصوص ما إذا كانت الأزمة الاقتصادية، المتعلقة بهذا الوباء، سَتُخَلِّف، بخاصة في الدول الأكثر فقرا، ضحايا أكثر من فيروس كرونا….حتى في بلداننا، الوضع مقلق. الكل يريد رفع ميزانية الصحة. لكن كيف، إذا كان الاقتصاد ينهار؟
Source : https://dinpresse.net/?p=7989