د. خالد زهري ـ أستاذ العقيدة والفكر كلية أصول الدين، تطوان (المغرب)
صدر حديثا كتاب جديد بعنوان “علم الكلام الجديد: سؤال المنهج في نص العلمين محمد باقر الصدر وطه عبد الرحمن – دراسة نقدية”، لمؤلفه علي زين العابدين حرب.
لم أطلع على الكتاب، لأنه لم يقع بين يدي بعد، لا ورقيا، ولا إلكترونيا. إذ لم تصلني إلا صورة غلافه، لكنني أود الإدلاء ببعض الملاحظات الأولية، التي يمكن أن أستشفها من صورة الغلاف. وسأقسمها إلى ملاحظات شكلية، وأخرى معرفية:
أولا: الملاحظات الشكلية:
وهي ذات شقين: أحدهما يتعلق بصياغة العنوان، وثانيهما يتولى النظر في الصورة، من أجل استنطاقها، لعلها تبوح ببعض ما يختبئ وراءها.
أ – صياغة العنوان:
أول ما يستفزنا في صورة الغلاف، هو صياغة العنوان، حيث قدم مؤلف الكتاب اسم “محمد باقر الصدر” على اسم “طه عبد الرحمن”، ومن حقنا في هذا المقام أن نتساءل:
هل روعي في هذا التقديم الأسبقية الزمنية؟ فلا يسعنا إلا أن نسلم لهذا التقديم، ونعترف بأحقيته.
أم روعي فيه الانتماء العقدي الشيعي الإمامي؟ وهذا فيه نظر، لأنه يعطي للإيديولوجيا حق التسلط على البحث العلمي، فيفرغه من محتواه الحقيقي، ويجرده من مقاصده الشريفة.
أم روعيت فيه الأفضلية العلمية؟ وهذا غير صحيح، بحسب ما سنكشف عنه في القسم الثاني، المتعلق بالملاحظات المعرفية.
أم أنه كان لمجرد التشهي والهوى؟ وهذا غير مقبول، وغير مرضي.
أم أنه كان لمجرد الصدفة؟ وهذا فاسد ولا يعقل، لأن تصرفات العقلاء مصانة عن العبث.
ب – صورة الغلاف:
ثاني ما يثير تساؤلنا، هو الصورة الموضوعة على الغلاف، والتي يتراءى فيها الرجلان جنبا إلى جنب، مع لحاظ ملمحين:
الملمح الأول: موضع طه عبد الرحمن في يسار محمد باقر الصدر.
الملمح الثاني: اختلاف حجم صورتي الرجلين المبحوثين. فصورة محمد باقر الصدر ضخمة، وملامحها بارزة، بيد أن صورة طه عبد الرحمن أصغر منها، وملامحها باهتة أو تكاد.
أما الملمح الأول: فهل يوحي بتصنيف للرجلين، بين محافظ على الدين، منافح عنه (اليمين / محمد باقر الصدر)، وبين زائغ عنه، مائل إلى أفكار غير دينية (اليسار / طه عبد الرحمن)؟
وأما الملمح الثاني: فهل يلوح من تصغير صورة طه عبد الرحمن تقزيم له، مما يلزم عنه تقزيم فكره، ومما يخلق في المتلقي الاستعداد الأولي لاعتقاد ضمورهما وضحالتهما؟
وبالمقابل، هل تعظيم صورة محمد باقر الصدر يقصد به تعظيم شخصه على شخص طه عبد الرحمن، مما يلزم عنه
تعظيم فكر ذاك على فكر هذا؟ وهل يقصد من ذلك، تأهيل المتلقي لقبول تميز وعظمة وريادة عالم على حساب عالم، وفكر على حساب فكر، وعقيدة على حساب عقيدة؟فلا غرو؛ إذن؛ أن يولد لنا ذلك انطباعا أوليا، بأن الموضوعية غائبة في هذه الدراسة المقارنة النقدية بين الرجلين.
ثانيا الملاحظات المعرفية:
إخال أن المقارنة بين الرجلين المبحوثين، ستكون كلاسيكية، وغير مجدية، في الغالب، لأن أوجه الاختلاف بين طه عبد الرحمن السني الأشعري، وبين محمد باقر الصدر الشيعي الإمامي، أكثر من أوجه الاتفاق، وطريقتهما في تناول القضايا الكلامية متباينة جدا. فطه عبد الرحمن يتعامل معها بطريقة الفلاسفة، ومحمد باقر الصدر يتعامل معها بطريقة الفقهاء. وطه عبد الرحمن تكوينه أكاديمي، واستفاد كثيرا من المناهج الغربية، خاصة عندما درس في جامعة محمد الخامس بالرباط، ثم جامعة السوربون بفرنسا. ومحمد باقر الصدر خريج الحوزات العلمية، وهي ذات تكوين تقليدي، كما أنه ظل طيلة عمره في معزل عن التكوين الأكاديمي.
ولبيان ذلك، يمكن أن نجري مقارنة بين كتابين للرجلين في الفلسفة، وهما “فقه الفلسفة” (جزءان) لطه عبد الرحمن، و”فلسفتنا” لمحمد باقر الصدر، وكتابين آخرين في “علم الكلام”، وهما: “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام” لطه عبد الرحمن، و”موجز أصول الدين: المرسل، الرسول، الرسالة” لمحمد باقر الصدر، وسنرى أن بينهما بعد المشرقين.
فالرجل الأول أكاديمي صرف، ويكثر من طرح الإشكالات، وتعميق النظر فيها، وفي الإجابة عنها، وتلوح لنا منها استفادته الجمة من أحدث ما توصلت إليه العلوم الإنسانية الحديثة، خاصة اللسانيات والمنطق العملي والرياضي. والرجل الثاني تقليدي إلى حد بعيد، كل همه أن يلقن أفكارا فلسفية وكلامية مدرسية للقارئ، فهي لا تزيد عن كونها تقريرات وتلقينات، يستفيد منها المبتدئون، وهي أقرب إلى أن تكون تطبيقا للمنهج الجدلي، بإنزال المتون التعليمية الحوزوية إلى معترك الردود والمناظرات. كما أنه ظل حبيس المدارس الفقهية والأصولية والمنطقية القديمة، ولم ينفتح على المدارس الفلسفية والمنطقية الغربية إلا بالواسطة، لأنه لا يتقن اللغات الأوربية الفلسفية، فيكون انتقاده لها من وراء حجاب، مما يجعلها سطحية جدا، ولا يستفيد منها إلا الطلبة المبتدئون في الحوزة العلمية. بخلاف طه عبد الرحمن، الذي اتسم نشاطه العلمي والفلسفي بالخصائص الآتية:
1- أنه دخل إلى معترك الردود والمناظرات بسلاح لغوي قوي، فكان تعامله مع اللغات الأوربية الفلسفية، وصناعته للغة عربية فلسفية ومنطقية متميزة، قمينا بأن يؤهله للجمع بين “اللسان والميزان”، وبأن يجعل عقله “عقلا متكوثرا”.
2- أنه يمتلك الأدوات البحثية الدقيقة، التي تجعله قادرا على “التأصيل” و”التأثيل”، ثم “الصناعة” و”التأسيس”.
3- أنه يطرح أسئلة فلسفية صعبة، قبل أن يحرجه بها خصمه.
4- أنه يجيب عن هذه الأسئلة بإجابات قوية، تمزج بين الجواب والاستشكال وبراعة الاستنتاج، من قبيل “سؤال الأخلاق”، و”سؤال المنهج”، و”سؤال العنف”، و”سؤال الحداثة”، و”سؤال الدهرانية”، إلخ.
5- أنه بارع في صناعة المصطلحات، التي جعلها بديلا لمصطلحات اقتحمت ثقافتنا العربية والإسلامية بدون وجه حق، من قبيل وضع “الفكرانية” بديلا عن “الإيديولوجيا”، و”الدهرانية” بديلا عن “الإلحاد”، إلخ.
6- أنه هدم أسس فلسفات، ليبني على أنقاضها أفكارا فلسفية جديدة، ذات ملامح إسلامية، من قبيل “الفلسفة الائتمانية”، التي وضع أسسها، هادما بها أسس “الفلسفات المادية المعاصرة”.
فلا جرم أن يكون ما ذكرناه مفضيا إلى الخصيصة الآتية:
7- أنه فتح آفاقا جديدة، وغير مسبوقة، في البحث العلمي عموما، والبحث الفلسفي خصوصا.
ولا شك أن هذه الخصائص غائبة تماما في الفكر التقليدي عند محمد باقر الصدر، الذي لاننكر عنه الإبداع، لكنه إبداع لم يتجاوز دائرة التفكير الحوزوي التقليدي.
هذه ملاحظات أولية، وهي أقرب إلى التخمينات والانطباعات، منها إلى النظر النقدي والتحليلي. ولا شك أن الاطلاع على الكتاب؛ عندما يصل إلينا إن شاء الله تعالى؛ كفيل بأن يضعفها، أو يخطئها، أو يصوبها، أو يعدلها.
تنبيهات:
التنبيه الأول: ليس في هذه التدوينة أي تنقيص من العلامة العراقي الشيخ محمد باقر الصدر، رحمه الله، وجازاه الله خيرا على ما قدمه للإسلام والمسلمين من خدمات علمية. ومع أنه شيعي إمامي، فهو شخصية دينية محترمة جدا في حيزنا السني، ومصنفاته تدرس في جامعاتنا العربية والإسلامية في العالم السني، ويستفيد منها طلبتنا وأساتذتنا. كما توجد دراسات كثيرة حول فكر هذا العالم الشيعي المتميز، أنجزها باحثون من أهل السنة.
التنبيه الثاني: ليس في هذه التدوينة أيضا أي تعظيم للمفكر والفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن حفظه الله، وليس فيها أي تقديس لأفكاره، فالرجل له ما له، وعليه ما عليه.
التنبيه الثالث: لا ينبغي أن يفهم من المقال، أنني أستهين بالمناهج التعليمية العتيقة، سواء في العالم الشيعي أو السني، ولا أنني أقول بأفضلية المناهج التعليمية المعاصرة على المناهح التعليمية التقليدية، بل الذي أذهب إليه، أن التكوين التقليدي مفيد جدا، ونافع، وضروري، ومبارك، لكن الاقتصار عليه، من شأنه أن يقتل المعرفة، لأنه يجعل من صاحبه وعاء علم لا عالما، وحافظا لا منتجا، وجامعا لا مبدعا. أما التكوين الأكاديمي، فإنه يركز على المناهج البحثية، مع قصور واضح في المضامين المعرفية. والاقتصار عليه، يجعل صاحبه يعاني من نقص معرفي حاد، ومن شح في تحصيل المعلومات الضرورية. والطريقة التعليمية الأفضل، والأولى بالاعتبار – في نظري – هي التي تجمع بين التلقين التقليدي، والتكوين الأكاديمي، من أجل اكتساب المناهج، التي نستطيع أن ندرس بها المضامين المعرفية. وهذا هو الذي يولد الإبداع، ويصنع المعرفة، ويسهم في تطور الفكر والثقافة.
التنبيه الرابع: أقصد باللغات الأوربية الفلسفية: اللغات التي تعتمد في التفكير الفلسفي، وتعد مصادرها الفلسفية هي المعول عليها في أوربا وأمريكا، وكذا في التفلسف العربي والإسلامي المعاصر، وهي: الألمانية، والإنحليزية، والفرنسية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7917