إنّ المناظرة المتعلقة بطبيعة أفضل نظام سياسي هي واحدة من أقدم المناظرات في الفلسفة.
فمنذ أفلاطون، ومرورا بأرسطو، أو شيشرون، سعى الفلاسفة دائما، وبطريقة جدّ مدروسة، إلى فهم ما هو شكل النّظام السياسي الأكثر ملاءمة لازدهار البشريّة.
وإزاء أزمة فيروس كورونا الحالية، يبقى هذا التساؤل في محلّه، إذ يتيح لنا الفرصة لمقارنة نجاعة كلّ من الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية في كبح جماح هذا الوباء.
المسألة ليست ما إذا كان بإمكان بعض الدول حماية نفسها من هذا المرض أم لا، ولكن بالأحرى إلى أي حدّ سيمكنها محاصرة تطوره من الآن فصاعدا، لكي لا يخنق النّظم الاستشفائية عن طريق تكديسها بالمرضى المعرّضين لخطر الموت. فمثل هذا الاحتمال، سيضطرّ الأطباء إلى اتخاذ قرارات أخلاقية للاختيار بين المرضى الذين يمكن إنقاذهم، والذين لا يمكن إنقاذهم، كما هو الحال في بعض الدّول الأوربية حاليّا، وتحديدا إيطاليا.
الهدف الآن هو الحدّ من نسبة تكاثر الفيروس إلى مستوى أقلّ من شخص واحد، أي بذل الجهد حتّى لا يعدي كل شخص مصاب إلاّ أقل من شخص واحد في المتوسّط. هذا يعني أنه يجب على كلّ واحد منّا أن يحدّ من تفاعلاته الاجتماعية بأربعة أشخاص. فالسّباق عكس عقارب السّاعة قد بدأ، وإلا فإن 70 بالمائة من سكان العالم سيصابون بهذا المرض.
وعلى هذا المستوى، يمكننا بالفعل مقارنة التدابير المتّخذة في الصّين وفي الأنظمة الديمقراطية على التّوالي.
ففي الحالة الأولى، نجد التّدابير الصّارمة التي تضيّق على الحريات الفرديّة (الحجر الصحّي الإجباري ومنع مغادرة المنزل)، والتّجمّعات (الإغلاق القسريّ لدور السّينما، والمراكز التّجارية، والمتاجر، والوزارات)، وفي الحالة الثانية، إجراءات صارمة أي نعم، لكنها تعتمد على روح المواطنة عند كلّ فرد. نحن نعلم الآن كيف أن الإجراءات الصينية، المنتهكة للحريات الفردية، قد آتت أكلها.
فحسب دراسة حديثة أصدرتها المجلة العلمية البريطانية ‘ذي لانسيت’، فإن الأمر لن يستغرق سوى أسبوعين حتى يتم تخفيض معدل تكاثر ‘كوفيد-19’ إلى النصف.
فماذا عن الإجراءات التي تعتمد على الإرادة الفردية إلى حد بعيد، كالتي تتّخذ في فرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، وفي كندا أو الكيبيك؟ هل ستكبح جماح تطور العدوى؟
أنصاف التّدابير
هناك أسباب تدعو للشكّ في مدى نجاعة التدابير الخجولة المتخذة في الكيبيك، والتي ترفض فرض الخيارات الملزمة. فإغلاق المدارس والجامعات أو تعليق دوريات الهوكي للصغار، ليست هي من سيسمح بحصر امتداد أعداد المرضى، إذ أن نفس هؤلاء الأشخاص سيستمرون في التردّد على دور السينما والأماكن العامّة باسم حريتهم الفردية المقدّسة.
من المحتمل جدا أن يؤدي هذا التّردّد في إهانة حقوق الأفراد إلى خلق وضع مشابه لما يحدث في إيطاليا اليوم، والذي ستواجهه في نهاية المطاف فرنسا وإسبانيا وألمانيا. دعونا نقول: إن جهازنا المناعي ليس أكثر مقاومة للأمراض منه من الصّينيين أو الإيطاليين، والوتيرة التي سنتأثر بها، هي نفسها في هذه البلدان. لسوء الحظّ، ستستمر العدوى في الانتشار بسبب هذا الخلل الخطير، وكذلك بسبب تقاعس أركان الدولة الأخرى، بدءا بالحكومة الفيدرالية التي برهنت، منذ بداية الأزمة، عن سذاجة تبعث على الإحباط.
وللأسف، فإن لمبادئ المواطنة حدودها، ويجب التفكيرالآن في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة، أثبتت فعاليتها. فلا ينقصنا غير حفنة من ‘حقوق الكائن البشري’ المتشدّدة لإعاقة تقدم هذا المرض. ربّما رئيس الوزراء الكندي ترودو هو الوحيد الذي لا يخفي فخره بالموافقة على حجر صحّي مفروض ذاتيا.
سواء أحببنا ذلك أم كرهناه، فالوضع الحالي يثبت محدودية الديمقراطية الليبرالية.
نحن أمام نظام حكم عالي الكفاءة وجدير بالثناء عندما يتوفّرعلى النظام والسلام والحكومة الجيّدة، فهذا أمر مسلّم به ولا يمكن الطّعن فيه. ولكن، ولسوء الحظ، يبرهن هذا النظام على محدوديته في سياق هذا التهديد الخطير، بسبب إحجامه عن تقييد ما يعتزّ به.
إذا كان هدف المجتمعات الليبرالية الأسمى هو الحفاظ على سلامة النّاس وضمان حقهم في الحياة، فإنه يتعيّن عليها أن تعمل أكثر ما في وسعها لتحقيق ذلك، وأن تقبل بأنه من غير الممكن أن يتحقّق إلا من خلال الإجراءات الماسّة بالحقوق الطبيعية للمواطنين، لكن لفترة زمنية محدّدة. فالمصلحة العامّة تعلو على المصالح الشخصية عندما يتعلّق الأمر بحالات الطوارئ. وفي مثل هكذا حالات، يكون لزاما على المصلحة العامّة أن تنتهك الحقوق الفردية، ولو مؤقّتا. لأن التّحرك عند فوات الأوان، كما حدث في إيطاليا، من الواضح أنه لم يعد خيارا مطروحا.
ترجمته ربيعة الفقيه، طالبة بمدرسة الملك فهد العليا للتّرجمة
مقال لجان فرونسوا كارون، أستاذ بجامعة نزارباييف بكزاخستان
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7406