محمد زاوي
(…)
4 ـ الأصل الرابع: ما قبل التاريخ (أصل الدين)
يعود الدين في أصله إلى عصور ما قبل التاريخ، أي إلى ما قبل ابتكار اللغة الكتابية وظهور الملكية الخاصة وتأسيس جهاز ينظم التفاوت الاجتماعي هو “الدولة” بمختلف أشكالها: الدولة المدينة، أو الدولة، أو الدولة الحضارة.
الدين قديم إذن، به عبّر الإنسان عن إنسانيته، أو لعله به انتقل من بشرية لا إنسانية هي أقرب إلى حياة الحيوان، إلى بشرية أخرى إنسانية أصبح فيها الإنسان واعيا بفعله. الباليوليت الثاني (الأوسط) من العصر الحجري القديم شاهد على هذه البدايات، وكذلك الباليوليت الثالث (الأعلى)، أما الأول (الأدنى) فلا شواهد تدل على تدين معمّريه كون البشر لم يكن قد أصبح إنسانا آنذاك. في الباليوليت الأوسط “بزغ الإنسان” ومارس طقوسا تشهد عليها مقابره ومدافنه (طريقة الدفن).
وفي الباليوليت الأعلى تشهد الرسوم (الحيوان) والمنحوتات (نحت أنثى بلا ملامح) والرسوم على محاولاته الأولى لمخاطبة “المطلق” من خلال “القوى السارية” و”الآلهة المشخصة”. (فراس السواح، دين الإنسان، الفصلان الثاني والثالث، دار علاء الدين، من ص 120 إلى ص 178)
في العصر الحجري الحديث، النيوليت، استمر التدين من خلال “القوى السارية” و”الآلهة المشخصة” (في جماجم حيوانات، أو دمى أنثوية).
وتستنتج بعض الأبحاث أن لجوء الإنسان القديم إلى التشخيص المذكور لا يعني أنه تعبد بقوى الطبيعة أو الحيوانات أو الدمى حيث يشخص آلهته. فإنه “ينتفي أن يكون الإنسان قد تعبد للحيوان في أي عصر من عصوره الغابرة، كما أنه لم يتعبد لأية ظاهرة طبيعية إلا بمقدار ما تشف هذه الظاهرة عن القوى الكبرى” (نفسه، ص 177-178).
إذا ثبت هذا المعطى، فإننا سنكون أمام ميزة إنسانية خاصة، بها ربما كان الإنسان إنسانا. أي أن ما يميزه في الأصل ليس وعيه بعمله فحسب، بل قدرته على التجريد قبل ذلك، ومنها تجريد إحساسه بالقوى الغيبية.
وبهذا المعنى، سنكون بصدد انتقال من محاولة تجريدية إلى أخرى في أفق التسامي بالتجريد إلى مستواه الأقصى، لا بصدد انتقال من وثنية إلى تجريد غيبي.
في حين أن هناك تأويلات أخرى تنفي أن تكون للإنسان -منذ بدايته- هذه القدرة على استشعار المطلق وابتغائه بالمشخَّص، فترى أنه تعبّد تلك الظواهر الطبيعية والحيوانات والدمى الأنثوية فعلا ومباشرة، لما لها من القدرة والقهر.
وإذا كانت للإنسان قدرات غيبية خاصة، فإنها لم تكن كذلك منذ البداية. وإنما تخلّقت مع مرور الزمن، وأصبحت لها تجليات عضوية وعصبية ونفسية في جسم الإنسان تبعا لتطوره العضوي والنفسي. لا تقول وجهة النظر هذه بثبات التركيبة الإنسانية، ولذلك فالأدوات العضوية والنفسية لاستشعار الغيبيات، في حالة وجودها، ما هي إلا نتاج لسلسلة من التطورات والتحولات التي عرفها جسم الإنسان.
وعليه فما يسميه البعض ب”منطقة الألوهية” (عمرو شريف، ثم صار المخ عقلا)، والتي لا تنشط في دماغ الإنسان إلا باستدعاء المتجاوِز والتوسل به أو إليه، ليس ميزة بشرية قديمة، وإنما هو ميزة إنسانية طارئة، أصالتها إنسانية لا بشرية. وإن هذه الأصالة الإنسانية الخاصة ب”منطقة الغيب” لا تنفي تطور استشعار الغيب وأدواته في زمن الإنسان نفسه (زمن البشر سابق عليه).
وسواء أتعبد الإنسان قوى الطبيعة أو ما شخصته يداه، سواء أتعبدها أم تعبد “قوة غيبية مطلقة” من خلالها، فقد أبدى لها طقوسا واصطنع حولها عقائد وأساطير. لقد كان قاصدا في البحث عن فلسفة للتجريد تعوزه الوسائل إليها. احتقار الأسطورة، بهذا المعنى، ليس من العلم.
فالعالم يقتضي إرجاع الأسطورة إلى زمنها الأصلي، أي زمن ما قبل التاريخ. هناك حيث كان للأسطورة معنى، وحيث تأسس فعل بشري لا يخلو فعل حالي من امتداد له. وبهذا، لا تكتفي الميثولوجيا بدراسة عالم الأسطورة القديم، بل وامتداداته الجديدة أيضا.
تبحث الميثولوجيا عن معنى للأسطورة، عن ذلك المعنى الذي به عاش إنسان ما قبل التاريخ، والذي من أجله تصبح الأسطورة بنية لا تخلو من دلالة أو دلالات لفهم مراحل بعينها من ما قبل التاريخ الإنساني، أو للاقتراب منها على الأقل.
هناك فرصة إذن لاستفادة التاريخ من الأسطورة، أي لتصبح الأسطورة أمامنا لا خلفنا؛ وتلك مهمة الميثولوجيا، لا من أجل العلم والكشف الأنثروبولوجي فحسب، وإنما للبحث عمّا أضعناه فينا وهو الأهم! اختزال العالم في بنية حديثة، في اضطرابٍ ملاحَظ في الحاضر، يضيّع على الإنسان فرصا شتى للفهم؛ خاصة وأن الأسطورة رغم “ظاهرها الإعتباطي العبثي”، فإنها “تعاود الظهور في كافة أرجاء العالم”.
إنها الوجه الظاهر لمعنى قديم، وهي “نظام” قد يفسر “الاضطراب البادي العيان”. (كلود ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، ترجمة: صبحي حديدي، منشورات الملتقى، 2006، ص 13-14)
وإنه مما يدل على أصالة تدين الإنسان، استمرار هذا البعد الأسطوري في حياته النفسية والاجتماعية إلى اليوم؛ إذ يأبى هذا البعد إلا أن ينبعث بين الفينة والأخرى من “رماد” الوضعانية الحديثة، كما “تنبعث العنقاء من رماد” الطبيعة. إن البحث عن تجلٍّ للمطلق، ولو كان هذا التجلي علما أو تفسيرا علميا، ليعد أبرز دليل على نزوع الإنسان نحو الأسطرة.
إننا “بصدد رد المفاهيم المعدّة من طرف الإنسان القديم إلى الإنسان الحديث. لقد اتخذت خطوة كبيرة إلى الأمام من وجهة نظر الأسطورة. لكن مجموع البنيات والعمليات المسماة سحرية هي التي يجب ويمكن أن نتعرف عليها في الإنسان الحديث، طبعا في صور خاصة.
وهكذا نخلص إلى بعض الموضوعات الكبيرة في التحليل النفسي، علم نفس الكهوف”، هكذا يقول إدغار موران (إدغار موران، مع ماركس وضد ماركس، ترجمة: محمد نعيم، دار النشر “صفحة”، الطبعة الأولى، 2022، ص 60)
(يتبع)