محمد زاوي
3 ـ الأصلان الثاني والثالث: ما قبل الحياة/ ما قبل الإنسان (أصل الحياة/ أصل الإنسان)
كيف كان هذا الإنسان خلقا كما نراه؟ هل خُلِق من عدم أم سرت عليه قواعد الطبيعة فكان خلقا من خلق، وتطويرا من تطوير؟ ما الذي جعله متفردا عن سائر مخلوقات الكون يعقل طفري لم يتحقق لديها كما تحقق له، وربما لن يتحقق لها كما تحقق له؟
كيف الإنسان عاقلا في عالم من غير العاقلين؟ كيف يحيى حياة خاصة، ناطقة، في حياة لا تفكر في سيروراتها وصيروراتها؟ ما الذي كان قبله في عالمه؟ هل كان خلية حية قبل أن يصبح جسما يتنفس ويتحرك ويفكر؟ هل أنتجته ظروف الطبيعة في علاقتها بباقي الكائنات الحية أم أن قدرة قادر جعلت له وجودا على الأرض؟ هل يعجز العلم عن إيجاد نقطة الصفر في وجود الإنسان كما يعجز عن تحديد أصل الحياة؟
وما الذي أعجزه عن تحديد هذا الأصل؟ أهو ذات العجز الذي لقيه في بحثه عن أصل للمادة الكونية الأولى؟
أسئلة كثيرة وهذه أبرزها، كلما ثبت عجز في علم الإنسان بخلقه وحقيقته إلا واشتد طرحها والاختلاف حولها بين فريقين: أصحاب نظرية الخلق، وأصحاب نظرية التطور. يختلفون حول وجود الإنسان، فنجدهم في غفلة منا يتحدثون عن أصل الحياة.
ولا نعرف هل يعوزهم التمييز بين المحدثين: حدث خلق الحياة، وحدث إيجاد الإنسان؛ أو بعبارة أخرى: أصل الخلية الحية، وأصل الإنسان؟! الإنسان مجموع خلايا حية، وهذه بها كانت الحياة حياة.
ولكن ما الذي أوحى لهذه الخلية الحية بالوجود؟ كيف كانت تركيبا دقيقا بين النواة والغشاء السيتوبلازمي والسيتوبلازم؟ كيف كانت نواتها تركيبا مفعما بالطاقة؟ وما الذي أعجز الإنسان بعد أن عرف مكوناتها عن الإتيان بمثلها كما عجز عن الإتيان بالتركيب الجزيئي للمواد الأساسية (مثل الماء)؟
هناك قول بالصدفة، ولا ندري كيف تؤدي هذه الصدفة إلى طريق واحد أولا، وكيف تتخذ لطريقها تعقيدا دقيقا يصنع الحياة؟! وهناك قول آخر بالطفرة، ولا ندري كيف يجوز الحديث عن انتقال فجائي من عناصر ذرية لا حياة فيها إلى خلية حية جد معقدة؟!
عندما نتحدث عن الخلية الحية فإننا نتحدث عن نظام دقيق جدا، تتطلب دراسته علوما شتى من قبيل البيولوجيا والكيمياء والفيزياء والرياضيات الخ. ما زال البحث جاريا، وما زال الأصل غامضا رغم ما فينا منه، ورغم بقاء “البقايا العضوية الحية القديمة” في تركيبتنا حسب ما يؤكده البيولوجيون (بول ديفيز، أصل الحياة، ترجمة منير شريف، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2010، ص 44-47).
يجيب الدين (الإسلام) على سؤال أصل الحياة بثلاثة أصول: الله خالق كل شيء، الله جعل من الماء كل شيء حي، الله خلق الإنسان من تراب/ صلصال كالفخار/ حمإ مسنون/ طين لازب. وهذا جواب على الخالق، ومادة الخلق. يتحدث الإسلام عن خلق الإنسان من طين، وكأنه خلق مباشر ليس بينه وبين التراب نبات أو حيوان.
أما النظريات الحديثة، خاصة الداروينيات، فترى أن الإنسان حصيلة تطور من تراب إلى حي عاقل كالذي نحن عليه اليوم، وبينهما مراحل جعلت نوعا من الطين يستحيل نباتا، وهذا يستحيل حيوانا، وهذا يستحيل إنسانا (حيوانا مفكرا).
يأتي الاعتراض الديني على هذه النظرية من جهتين: من جهة أصل الحياة وهي لا تقدم فيه إلا فرضيات، ومن جهة الانتقال من الحيوان إلى الإنسان وهي لا تعثر على حلقة بينهما (الحلقة المفقودة).
فرضيات أصل الحياة: لا اتفاق هنا بين العلماء والباحثين، إذ كيف لخلية حية بغشائها وسيتوبلازمها ونواتها أن تخرج من رحم مكونات لا حياة فيها؟! كيف نقبل قول القائلين بتظافر الأرض والأجواء المحيطة بها لإنتاج خلية؟! وكيف نقتنع بأنها نتاج تركيب بكتيري؟! إذا كان الأمر مجرد تركيب، لماذا تعوزنا قدراتنا كلما تعلق الأمر بخلق خلية حية؟!
تتقدم الأبحاث والاكتشافات لكنها لا تتعدى الكشف عن الإمكانات التركيبية البيولوجية (الطبيعية)، وهي نفسها الإمكانات التي لا تسعفنا إذا حاولنا إنتاج خلية حية. فما الذي اخترق التركيب بالحياة إذن؟ وما الذي جعل التركيب حياة فعلية؟ وإذا كانت الحياة لا تنتج عن تركيب فكيف كانت إذن؟
في هذه المسألة قولان: قول ب”علمية” الحقيقة، وقول بغيبيتها. القائلون ب”العلمية” يدافعون عن حق العلم في كشف مصدر حياة الخلية ويرفضون كل مسارعة إلى التفسير بالغيبيات.
أما القائلون ب”الغيبية” فيقولون إن سر الحياة من سر الروح (“قل الروح من أمر ربي”). ولا ندري كيف لم يهتدِ القولان إلى جامع بينهما؟! فالغيب لا يمنع تطور العلم، ولا العلم يناقض الغيب مطلقا. وكما أن الروح لا تمنع الطريق إليها، فإن العلم بالتركيب الخلوي لا يعترض على إمكان كشف جديد أو قوانين في الظواهر جديدة.
الحلقة المفقودة: بين الإنسان وأسلافه من القرود، حسب الداروينية ومدارسها، كائن وسيط بين النوعين. وهو الكائن الذي يجد الداروينيون صعوبة في إثبات وجوده إثباتا قاطعا، وما إن يكتشف الباحثون عظاما يظنونها تدل عليه سرعان ما يكتشفون أنها إلى القردة أو الإنسان أقرب.
هذا الكائن الوسيط هو حلقة مفقودة بين القرد والإنسان، وفي حال غيابه سنصبح إزاء طفرة حقيقية وغير مفهومة “علميا”، كما هو الحال بالنسبة لطفرات أخرى ما تزال حلقاتها مفقودة في نظرية داروين (مثل: الحلقة بين الدببة والكلاب، والحلقة بين المائيات والبرمائيات، الخ).
فمن جهة، إن الفرضية على وجود علاقة أو انتقال تبقى قائمة، إلا أنها تحتاج إلى إثبات حفري. يواجه الرأي الديني “الحلقة المفقودة” في نظرية داروين بمسلكين في النظر: مسلك يرفضها كلية، ومسلك آخر يرفض عشوائيتها ويقبل قولها ب”الأصل المشترك” لجميع الأحياء.
المسلك الرافض يدافع عن خلق الإنسان خلقا مستقلا عن باقي الكائنات الحية مهما أثبت العلم وحدة المادة التركيبية بينه وبينها (الهيدروجين، الأوكسجين، الكربون، الخ). هذا المسلك منشغل بنظرية الخلق كما دافعت عنها الكتب السماوية. أما المسلك الرافض لعشوائيتها، فإنه يثبت الأصل المشترك ويقول إنه غير قابل للإنكار من الناحية العلمية.
المرفوض بالنسبة لهذا المسلك الثاني هو العشوائية التي تناقض “التطور الموجّه”، وهو الذي يعبر عنه المتدينون من أصحاب هذا المسلك ب”التطوير الإلهي” (عمرو شريف، ثم صار المخ عقلا).
وحتى يجد هؤلاء حصنا ضد القائلين بالخلق المستقل انطلاقا من مرجعية قرآنية، فقد اكتشفوا/ ابتكروا تأصيلات تثبت وجهة نظرهم (راجع: “أبي آدم” لعبد الصبور شاهين/ “آذان الأنعام” لعماد محمد بابكر الحسن).
فأما تأصيل عبد الصبور شاهين فينطلق من آيات قرآنية عديدة لإثبات قِدم الجنس البشري على آدم، الذي يعتبر أول إنسان لا أول بشر. فالدين في نظر شاهين بدأ مع آدم، وكذلك العقل وما يتفرع عنه من قدرة على الكلام (إنتاج اللغة) والتدين.
فلو كانت الأرض خلاء من بشر، لما قالت الملائكة لله تعالى لمّا أراد جعل آدم في الأرض خليفة: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك” (سورة البقرة، الآية 30).
لا يفهم شاهين “خلق آدم” على أنه خلق من عدم، وإنما هو خلق من بشر سابق، وهو خلق بإلقاء صفات جديدة طفرية في جسمه، ك”نفخ الروح” و”التسوية والتعديل” و”تعليم الأسماء كلها”. (عبد الصبور شاهين، أبي آدم)
وبخصوص تأصيل بابكر الحسن فيبني على عدة آيات قرآنية لإثبات سابِقية البشرية على الإنسانية (“هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يك شيئا مذكورا”، كإنسان عاقل يتميز عن سائر المخلوقات غير العاقلة/ سورة الإنسان، الآية 1)، ولإثبات تطور الأحياء (“وقد خلقكم أطوارا”/ سورة نوح، الآية 14)، كذا لإثبات الأصل النباتي للأحياء (“والله أنبتكم من الأرض نباتا”/ سورة نوح، الآية 16)، ولإثبات الطفرة العقلية التي نتج عنها الإنسان (“فإذا سويته ونفخت فيه من روحي”/ سورة الحجر، الآية 29).
لا يختلف بابكر الحسن عن عبد الصبور شاهين بخصوص “سابقية البشر في الوجود على الأرض”، ولا في الطفرة الناتجة عن نفخ الروح في “جسد البشر”؛ وما يميزه عنه هو بعض الإشارات التي يجدها القارئ في “آذان الانعام”، كعلاقة الإنسان بالأنعام وتدخل الشيطان في هذه العلاقة، ومثل الغاية من الحج كل سنة. وكله يعتمده بابكر الحسن لتأييد أطروحته.
إنه سواء كان الإنسان خلقا جديدا بمعنى الخلق الفعلي من عدم، أو كان جعليا بمعنى جعله بشرا عاقلا متكلما متدينا ب”نفخ الروح”، فإن يد الله (أصل الأصول ومسبب الأسباب كلها) لا ترتفع عنه ولم يكن ليصبح كما أصبح إلا بتدخلها.
إن “الخلق القرآني” كما فهم لدى الأقدمين حسب مبلغهم من العلم بالإنسان، سيفهم لدى المعاصرين حسب تطور علمهم ومعرفتهم. وذلك مع التأكيد على تحري عدم التسرع إلى إثبات ما لم يتأكد بعد على سبيل القطع، وعلى إثراء الوعي الديني والإسلامي بأفق علمي ومعرفي أوسع لا يشترط على الله خلقا بعينه، لا يثبت بحقيقة مادية ولا بحقيقة قرآنية.
يجب الحذر من التقول على الله في الاتجاهين معا، في إثبات “الخلق الفعلي من عدم” أو نفيه.
(يتبع)