12 يوليو 2025 / 06:42

أصل الإسلام: ما قبل الهيولى، ما قبل الحياة، ما قبل الإنسان، ما قبل التاريخ (2)

محمد زاوي

1-الأصل الأول: ما قبل الهيولى (أصل الكون/ تتمة)

(…)

في الأصل كان الكون، قبل حوالي 14 مليار، سنة “مفردة” (طاقة) ولا شيء غيرها، حجم صفري (مفردة دقيقة قطرها يساوي 0) وحرارة لا متناهية.. فأخذت هذه “المفردة” تتمدد اطرادا مع تبرّدها وانخفاض درجة حرارتها، حتى تشكلت في وضع جديد يُطلق عليه “الوضع ما قبل قبل الذري”، وهكذا إلى أن أصبح “الوضع ذريا” (بعد تكون البروتونات والإلكترونات وترابطهما) قابلا للتشكل في مجرات.

إن حدوث هذا الانتقال في وقت جد وجيز (مليون مليون مليون مليون مليون مرة في جزء من الثانية فقط)، هو ما جعل العلماء يسمونها “الانفجار العظيم” (عمرو شريف، كيف بدأ الخلق؟ مكتبة الشروق الدولية، 2011، ص 43-44). هي “مفردة” إذن، وهي الأصل الأصيل ل”مادة الكون”. ولكن، ماذا كان قبلها؟ وكيف أصبحت كونا في زمن وجيز جدا؟

لا تعطي الفيزياء الفلكية أجوبة دقيقة على مرحلة “ما قبل المفردة”، بل إن أجوبتها في الموضوع لا تتجاوز مرحلة التخمين ووضع الفرضيات.

صحيح أنها فرضيات تنحو منحى علميا، باحثة عن قانون علمي يفسر مرحلة “ما قبل الهيولى (المفردة)”؛ إلا أنها تبقى مجرّد فرضيات يعوزها سؤال الأصل مهما تعددت وتنوعت واجتهدت في إثبات أصول أخرى. ما ينقصها دائما هو كشفها عن “أصل الأصول”، وتفسير التحولات الدقيقة بعفوية “علمية” مصطنَعة.

فمثلا ينكر ستيفن هوكينغ التفسير الديني لنشأة الكون، ويرى عدم حاجتنا ل”خالق” نفسر به مثل هذه الظواهر؛ ولكن: إلى أي حد استطاع هوكينغ تقديم تفسيرات مقنعة للذي حدث، لمقدماته وكيفياته؟

ـ جواب ستيفن هوكينغ في “الأصل الأول” (ما قبل الهيولى): هذا الأصل، ما قبل الهيولى، هو بالنسبة لستيفن هاوكينغ غير قابل للقياس؛ أو لنقل: لا يتوفر العلم الحالي على معطيات وإمكانات كفيلة بتحديد قياسه. وليس هذا مدعاة للتوقف حسب هاوكينغ؛ بل إن لهذا الأصل أصولا أخرى يمكن إيجادها في الأكوان المتعددة، ما دامت أكوانا لا متناهية العدد (ستيفن هوكينغ، التصميم العظيم).

ـ جواب ستيفن هوكينغ في “قانون التحول”: هذا القانون، بالنسبة لهوكينغ موجود، إلا أنه ناقص لم يكتمل بعد. ما ينقصه هو “التفسير الكلي”، وهو ما لم يجده العلم الحديث إلى حدود العصر. وإذا وجد علماء الفيزياء ضالتهم في البحث عن هذا القانون لعلهم يغلقون به باب الاجتهاد في معرفة أصل الكون، فإن آخرين وجدوا في التفسير الديني ضالتهم في الأزل والأبد. فكما ينشأ الإنسان ويفنى، ينشأ الكون ويفنى. نفس القانون (“قانون الخلق والإعدام”) يسري على الجميع (“كل شيء هالك إلا وجهه”).

عندما يقف العلم تبدأ فلسفة أخرى من جنسه، ومهما كانت هذه الفلسفة علمية فإنها تبقى مجرد فلسفة لا ترقى إلى نموذج التفسير العلمي. إنها نوع جديد من “الأسطورة”، من ابتغاء المطلق في علم مفترَض، أو لنقل: في منظومة علمية قادرة قدرة مطلقة على تفسير كافة الظواهر. إنها أسطورة كالتي أنتجها إنسان ما قبل التاريخ، ميزتها الوحيدة أنها تمارَس في حدود أعلى للعقل البشري.

فالأكيد أننا نفهم من الحياة المادية والمعنوية اليوم أكثر مما فهمه أجدادنا الأوائل ما قبل التاريخ، أكيد أننا نفهم من العالم أكثر مما فهمه إنسان ما قبل “الأنوار الأوروبية”، أكيد أننا نفهم من العوالم أكثر مما فهم إنسان ما قبل الثورة الرقمية والتكنولوجية؛ إلا أننا لا نفهم أكثر مما سيفهمه أو قد لن يفهمه غيرنا في المستقبل.

ولذلك فكلما وجدنا فراغات هنا أو هناك ملأناها بتخمينات أسميناها “علمية”، في حين أن الفرق بينها وبين الأسطورة القديمة لا يتجاوز الأساس الذي بنيت عليه كل منهما. فإذا كانت الأسطورة قد بنيت على حدود بدائية، فإن التخمينات العلمية تبنى اليوم على حدود في الكوسمولوجيا والكوانتيك الخ.

الفرضية الأقرب إلى الحقيقة هي أن “المفردة الأولى” تحتفظ ب”مادتها” فينا، بل بما قبلها أيضا، إلى أن يتأكد الأصل الأول، أصل الأصول، ومسبّب الأسباب.

إن البحث في الكونيات يستمد أهميته ليس من باب ما يضيفه للعلم فحسب، وإنما من باب إغناء الوجدان البشري كذلك. لا يغتني الوجدان بالمكتشَف الجديد، بقدر ما يغتني بالغائب في عملية الاكتشاف. يغنيه العجز لا القدرة، يقف عند قدرة العلم لتجاوزها بعجز، ينتج فلسفة أنطولوجية معبرا عن حاجة قائمة، هي الرجوع إلى الأصل رغما عن أنف “الاكتشاف العلمي”.

الذين يسعون إلى “حسم عروق” العجز سرعان ما يضعون أيديهم على مساحات فارغة، في أكوانهم المتعددة أو كونهم الأول أو سلسلة أكوانهم المتعاقبة. إنه بعد كل تفسير، يرِد سؤال: “الما قبل”؟

(يتبع)