نورالدين الحاتمي
إن الطريقة التي تعاطت بها العقلية الإسلامية ـ والسلفية على الخصوص ـ مع “وباء كورونا” كشفت أن هذه العقلية قاصرة وضعيفة، وأنها في حاجة إلى أن تخوض ثورة ضد نفسها.
يزعم “رجال الدين” [ وأفتح هنا قوسا لأشير إلى أني اقصد هنا “رجال الدين” تماما كما تفهم في المجال التداولي الغربي أي” مدبري المقدس” بلغة “ماكس فيبر” وتماما كما يتم تمثلهم في ذلك المجال، لا فرق] أقول: يزعم “رجال الدين” الذين يؤطرون عقلية المريدين والأتباع أن هذا الوباء ـ كورونا ـ جندي من جنود الله يسلطه على من يشاء من عباده “العصاة والمارقين” بل، ويضيف بعضهم أن السبب وراء ظهور هذا الوباء هم الزناة والمثليون وأمثالهم، وأن الحل ـ بالتالي وبالضرورة ـ يظل هو “العودة إلى الله والرجوع اليه” ويجعلون رفع هذا الوباء مرهونا بالتوبة إليه والتعافي منه مشروطا به سبحانه.
وإذا كنا، مع أن يعود الناس إلى دينهم ويجددوا علاقتهم به، ويمتثلوا أخلاقه وقيمه،[ ولكن ليس بالضرورة الدين كما يشرحه هؤلاء] فإننا نرى أن هذا القول فاسد ومتهافت، ويظهر لنا فساده في أن اعتبار الوباء جنديا من جنود الله قضية لا يسندها العلم ولا يؤيدها المنطق، بدليل أن الجندي ـ كما يتبادر إلى اذهاننا ـ يسلطه الله على العصاة ـ أو المتمردين ـ على أوامره لردعهم وعقابهم ليرجعوا إليه، وكونه جنديا يقتضي أنه لا يذهب عنهم حتى يجأروا إليه ويتضرعوا، والناظر في تاريخ البشر يألف أن هذا الأخيرـ تاريخ البشر ـ عرف عددا من مثل هذه الظواهر وعانى منها ، وأنه كلما ذهب وباء ـ و ارتاحت منه البشرية ـ تبعه آخر، وأذاقها من ويلاته مرة أخرى، لا يختلف في ذلك “المجتمع المتدين” و”المجتمع غير المتدين”، حتى صح القول أن الاوبئة جزء من تاريخ البشر، وواقعة من جملة وقائعها كما يقول المؤرخون، وأن هؤلاء البشر يتعرفون عليه ويتجاوبون معه ـ و في الأخير ـ ينتصرون عليه انتصار الحياة على الموت، إذ الحياة دائما أقوى من الموت، وأنها هي التي تنتصر في النهاية، ويألف أيضا، أن الوباء الذي يعتبر جنديا من جنود الله يرتفع دون أن يتوب الناس ودون أن يُقلعوا عما هم عليه من “الكفر” و”الزندقة”
فإذا كان هذا الوباء جنديا ـ كما يقولون ـ وكان الجندي يستمد قوته من الله القوي، فلماذا يرتفع حتى دون أن يحقق الغرض الذي جاء من أجله؟ ولماذا يقهره البشر وينتصرون عليه، ويستأنفون حياتهم ومعيشتهم وكأن شيئا لم يحدث، أي دون توبة منهم؟ أليس في ذلك انتصارا على جندي من جنود الله؟ تعالى الله عن هذه الفرضيات.
إن القول أنه جندي من جنود الله لا يقدم شيئا للعلم ولا يضيف، بل إنه لا علاقة له “بالعلم” نهائيا. إن هذا النوع من التفاسير يعود إلى مرحلة ما قبل العلم بكثير. إنه ينتمي إلى “المرحلة اللاهوتية” أي إلى تفسير الظواهر الطبيعية وتفسير حدوثها بفعل القوى المتعالية المتسترة وراء الطبيعة، حسب الرؤية “الكونتية”. وإذا كنا نقر هذا ونؤمن به فلأن الإسلام ـ الذي ندين به ـ يقول هذا. ونحن نبقيه في هذه الدائرة : دائرة “الدين”، ونفصل ـ بطريقة منهجيةـ بينه وبين “العلم”، والفرق بينهما واضح تمام الوضوح. فالدين يفسر الظواهر بإرجاعها إلى الله ،العلة الأولى: علة العلل التي تبحث عنها الفلسفة في تفسيرها لذات الظواهر الفلسفة،[ الفلسفة هنا كالدين، الفرق بينهما هو أن الفلسفة تبحث عن العلة الأولى والدين يدل عليها] و بالتالي يجيب عن سؤال: لماذا؟ في حين أن العلم يتجاوز هذا الموضوع: موضوع العلل، إلى البحث في القوانين، وبالتالي يهتم فقط بسؤال: كيف؟
وهكذا يمكننا أن نفهم الموضوع: إن شغل “رجال الدين” وموضوع عملهم هو الدين، وفي الدين. وهذا الأخير يقوم تصوره على إرجاع كل الظواهر إلى علتها الأولى، ويفسر نشأتها وحدوثها بالقول أن الله هو من أحدثها، في حين أن العلم ليس كذلك، إذ لا يُعنى بسؤال الدين والفلسفة، وإنما يعمد إلى الظاهرة لفحصها ودراستها لاكتشاف قوانينها، و من ثم السيطرة عليها والتحكم فيها، وغايته التسخير للإنسان وخدمته.
وهذا الموضوع بالذات، ينبغي أن لا يثير حفيظة أحد، فالاختلافب ين “الدين” وبين “العلم” شيء عادي، كما كان الاختلاف بينه وبين الفلسفة قديما شيئا عاديا. وإذا كان تاريخ الفلسفة والدين فيه كثير من التداخل، فإن “العلم” لا يمكن إلا أن يكون محايدا، أي لا يكون معه ولا يكون ضده. إن “العلم” ليس مؤمنا وليس ملحدا. إنه علم، وعلم فقط، وهو لا يشتغل بموضوعات الدين ولا يهتم بها. إنه لا يُعنى الا بقضاياه، وقضاياه هي تلك الظواهر التي يمكنه ان يبحث فيها ويجد لها المعنى.
صحيح أن “للعلم” حدودا، وهو ليس بديلا عن الدين، فهذا الأخير يجيب عن تساؤلات لا يُعنى بها “العلم” وهو لا يحتاج إلى العلم ولا يتوقف في نموه وتطوره عليه، عكس الدين فإنه دائما يلجأ إليه يلتمس منه الشرعية ويستمد منه مبررات وجوده.
وإذا كان موضوع اعتبار الفيروس جنديا من جنود الله ـ وكما يشرحه رجال الدين ـ غير ذي معنى وغير ذي مضمون، فإن الزعم أنه نتيجة المعاصي والذنوب والزنا واللواط والسحاق، يكون ـ من باب أولى ـ مجرد كلام متهافت وغير مبرر، وهو كذلك، ليس فقط لتهافت اعتبار الفيروس جنديا الهيا ولكن، أيضا، لأنه يتضمن مغالطة مفضوحة وفاحشة.
فلماذا يتم التركيز على هذه الموبقات بالذات ؟ لماذا الزنا والمثلية؟ لماذا يسكت “رجال الدين” عن المعاصي الاخرى وكأن الله لا ينتقم إلا على هذه؟ لا شك أن الله يغضب على مقترفي هذه الآثام، ولكنه أيضا يغضب على غيرها: يغضب على تجار المخدرات الذين يتحالف معهم “رجال الدين” ويغتنون منهم، ويغضب ـ بالأولى ـ على الذين يتلاعبون بآياته ويحرفون كلامه ويصطفون إلى جانب الطغاة ويمكنون لسلطانهم، بالتآمر معهم على الشعوب، وإن الله يغضب لغياب العدالة الاجتماعية وتفشي الظلم وقعود الناس عن المناضلة لتغييره.
إنهم إذ يحملون المسؤولية للمتورطين في هذه المعاصي ـ التي لا يتعبون من ذكرها ـ يحملون المسؤولية لعامة الناس ـ ما في تقديرهم ـ ويبرؤون ذواتهم . إنهم يسكتون على الآثام الكبيرة التي ذكرناها، كالمتاجرة بالدين والركوب على الشعوب به، لأنها تعنيهم هم، ولا تعني غيرهم، أي يسكتون على أنفسهم. إن المشكلة عندهم، فقط، مع “الآثام” التي يقع البسطاء فريستها.
إن معاصيهم؛ أي “رجال الدين” لا تقل بشاعة وشناعة عن معاصي غيرهم، إذا لم تكن أشنع وأبشع منها، لأنهم ـ كما يروجون عن انفسهم ـ موقعون عن الله وناطقون باسمه. وإذا كان الفيروس جنديا من عند الله للانتقام من المذنبين فالأولى أن يُسلـطه عليهم.
إن المعصية شيء طبيعي في حياة الناس، والله خلقهم وقدر عليهم أن يعصوا وكتب على نفسه أن يرحمهم ويتوب عليهم، والناس جلهم شركاء في “المعاصي” وشركاء في “الذنوب”؛ يستوي في ذلك العالم والجاهل والكبير والصغير، والمواعظ التي لا يتوقف “رجل الدين” عن إلقائها لا تفعل شيئا غير أن تزيد من عقد المجتمع و أمراضه، فتلك المواعظ لا تقلل نهائيا من” المعاصي” لأن الناس لا يسمعونها وينصرفون عنها، ولا يكون لها أي حظ في حياتهم، بل و”الشيوخ”ـ الذين يتولون إلقاءهاـ لا تعنيهم في شيء، وإنما هي مهنة يمتهنونها وحرفة يحترفونها ووظيفة مربحة.
وأختم بالقول إن هذه الطريقة في التفكير والتفسير ليست خاصة بالسلفيين المسلمين وحدهم، بل يتقاسمها معهم السلفيون اليهود والنصارى.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7812