جمعه: د.يوسف الحزيمري
“أب الإفادة أفضل من أبي الولادة” هذا مثل تجده بكثرة في كتب “آداب العالم والمتعلم”، وفي سياق بيان فضل المعلمين، وهو يشير إلى أفضلية الأبوة المعنوية أو الروحية ـ التي تكون بين المعلم والتلميذ، وبين الشيخ والمريد ـ على الأبوة الصلبية، وهذا المثل موضوعه أخلاقي/تربوي يُقارن بين من يعلّمك ومن أنجبك.
فهل يكون الأب الحقيقي من أنجبك، أم من علّمك ووجهك؟
إن أب الولادة هو من أنجبك وربّاك، بينما أب الإفادة هو من علمك، وأفادك علمًا، أو أخلاقًا، أو توجيهًا، وقد تجتمع الأبوتان في شخص واحد كما إذا كان أبوك هو معلمك وشيخك.
وفي الموازنة بين الأبويتين يقول الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني رحمه الله: “الأصلاب الروحانية كالأصلاب الجسمانية، منها ما تكون عقيمة مع كمالها، ومنها ما تكون لها ولد أو ولدان، ومنها ما تكون لها أولاد كثيرة، ويؤخذ من قضية السيد زكريا عليه السلام: طلب الولد إذا خاف الولي اندراس علمه أو حاله بانقطاع نَسْله الروحاني، ولا شك في فضل بقاء النسل الحسيّ أو المعنوي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إِذَا مَاتَ العبدُ انْقَطَعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثَ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ وَلَدٍ صالح يدعُو لَهُ، أوْ عِلَم يُنْتَفَعُ به»[ أخرجه مسلم في «الصحيح» رقم 1631 وأبو داود في «السنن» رقم 2880 والترمذي في «الجامع» رقم 1376، والنسائي في «المجتبى» رقم 3651، وأحمد في «المسند» 2/372، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم 38،والبيهقي في «السنن الكبرى» 6/278 من حديث أبي هريرة.]، وشمل الولد البشري والروحاني. [البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 350- 351)]
وفي الحديث إشارة إلى الولد الصالح ويعم الصلبي والقلبي، والولد الصالح كما عبر عنه الشيخ علوان الحموي رحمه الله: “هو النافع يدعو له بلسانه أو بلسان غيره، فإن الولد إذا كان صالحا وجب الدعاء لوالده من كل من رآه، كرحمة الله على من خلفك، أو رحم الله من أنت خليفته ونحو ذلك، فيتأكد الاعتناء بتربية الولد وبتخليقه بأخلاق الصالحين عسى أن يعم نفعه لنفسه ووالديه والناس، ويؤخذ من قوله أو ولد الذكر والأنثى والخنثى ويدخل في عمومه ولد الولد وإن سفل لقوله تعالى:{يا بني آدم} [الأعراف: 26] فتأمل، ويعم الولد الصلبي والقلبي، ولعل كثيرا من الأولاد القلبية أعم نفعا من كثير من الأولاد الصلبية في المحيا والممـات” [تحفة الإخوان في مسائل الإيمان]
لماذا يُقال إن “أب الإفادة أفضل من أبي الولادة”؟ وهل يمكن تفضيل دور المعلم أو المربي على دور الأب الطبيعي؟
إن الأب الطبيعي (أب الولادة) ومكانته وأهمية دوره في التربية والنفقة والرعاية، وكونه أولا سببا في خروج الأولاد إلى الوجود، فبمجرد هذا الدور أعطى له الشرع حقوقا على الأبناء عظمى، وطاعة كبرى قرنها الله عز وجل بطاعته، وجعل له الاحترام والبر والطاعة الواجبين شرعًا وعرفًا، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا وكذا الأحاديث النبوية الشريفة.
أما مكانة الأب المعنوي (أب الإفادة)، فمن الأهمية بمكان إذ هو الذي يعمل على صناعة العقل والوعي والقيم، وتأثيره الطويل المدى في حياة الفرد، إذ هو يكون سببا في فلاح حياتك الأخروية بينما أب الولادة يكون سببا في سعادتك الدنيوية، فإذا كان أب الولادة يمنح الحياة الجسدية، فإن أب الإفادة يمنح الحياة الفكرية والروحية، الأول يربطك بالماضي (الأصل)، والثاني يفتح لك آفاق المستقبل، وكلاهما مهم، لكن دور الإفادة قد يغيّر مصيرك بالكامل.
من هذه المقارنة ذهب كثير من العلماء إلى كون أب الإفادة أفضل من أب الولادة ، وأن العلاقة الروحية أقوى من العلاقة الصلبية، قال ابن المنير: «لأن الله عز وجل علم آدم الأسماء كلها ثم أمره أن يعلمها الملائكة، قال: فلما علمهم إياها حصل له عليهم فضل العلم على المتعلم فأمرهم الله عز وجل عند ذلك بالسجود له، قال: فقد أمر الله بالسجود لأبي الإفادة ولم يأمر به لأبي الولادة» [«توضيح الأحكام شرح تحفة الحكام» (1/ 8)]
إن ما يبنيه الأب الحقيقي إذا لم يقم أساسه المعلم فمآله الانهيار، قال في إتحاف السادة المتقين: “ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم، وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة أعني معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك نعوذ بالله منه”.
ﻭﻓﻲ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ صلى الله عليه وسلم: (.. ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺎ ﻟﻜﻢ ﻣﺜﻞ اﻟﻮاﻟﺪ ﻟﻮﻟﺪﻩ- ﻭﻓﻲ ﻟﻔﻆ ﺁﺧﺮ: ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﻮاﻟﺪ ﺃﻋﻠﻤﻜﻢ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا لكم مثل الوالد لولده” بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة، وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا، ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية.
فإن المعلم ﻟﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺃﺷﺮﻑ الأبوين، ﻭﺃﺑﻮ اﻹﻓﺎﺩﺓ ﺃﻋﻈﻢ ﺣﻘﺎ ﻣﻦ ﺃﺑﻲ اﻟﻮﻻﺩﺓ، ﻓﻴﻮﻗﺮﻫﻢ ﻛﻤﺎ ﻳﻮﻗﺮ ﺃﻭﻻﺩﻩ، ﻭﻳﻮﻗﺮﻭﻩ ﻛﻤﺎ ﻳﻮﻗﺮﻭا ﺁﺑﺎءﻫﻢ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ اﻻﺳﻜﻨﺪﺭ ﻭﻗﺪ ﺳﺌﻞ: ﺃﻣﻌﻠﻤﻚ ﺃﻛﺮﻡ ﻋﻠﻴﻚ ﺃﻡ أبوك ؟ ﻗﺎﻝ: ﺑﻞ ﻣﻌﻠﻤﻲ، ﻷﻧﻪ ﺳﺒﺐ ﺣﻴﺎﺗﻲ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ، ﻭﻭاﻟﺪﻱ ﺳﺒﺐ ﺣﻴﺎﺗﻲ اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ، ﻓﻬﻮ ﺃﺣﻖ ﺑﺎﻟﺘﻮﻗﻴﺮ ﻣﻦ اﻷﺏ.
وقال ابن الحاج في المدخل: “أمة النبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة أولاده; لأنه السبب للإنعام عليهم بالنعمة السرمدية، فحقه أعظم من حقوق الوالدين، قال عليه الصلاة والسلام: “ابدأ بنفسك”، فقدم نفسه على غيره، والله قدمه في كتابه على نفس كل مؤمن، ومعناه إذا تعارض حقان، حق لنفسه وحق لنبيه فأكرمها وأوجبها حق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعجل حق نفسه تبعا للحق الأول، وإذا تأملت الأمر في الشاهد وجدت نفع المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم من نفع الآباء والأمهات، وجميع الخلق; فإنه أنقذك وأنقذ آباءك من النار وغاية أمر أبويك أنهما أوجداك في الحس، فكانا سببا لإخراجك إلى دار التكليف والبلاء والمحن”، ويلحق به صلى الله عليه وسلم كل معلم لطريقته على وجه الإرشاد والإصلاح والهداية.
(ولذلك صار حق المعلم) لطريق الخير ( أعظم من حق الوالدين) إذا تعارضا، ( فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية)، وهما يضمحلان ( والمعلم سبب الحياة الباقية) الأبدية (ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم، وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة) والسبب الأكبر للإنعام عليه بتلك الحياة والخلود في دار النعيم، فأبو الإفادة أقوى من أبي الولادة، وهو الذي أنقذه الله به من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان.
ﻓﺒﻴﻦ اﻟﺸﻴﺦ ﻭاﻟﺘﻠﻤﻴﺬ ﺃﺑﻮﺓ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻭﻟﻬﺬا ﺻﺪﻕ ﻣﻦ ﻗﺎﻝ:
ﺃﻓﻀﻞ ﺃﺳﺘﺎﺫﻱ ﻋﻠﻰ ﻓﻀﻞ ﻭاﻟﺪﻱ **** ﻭﺇﻥ ﻧﺎﻟﻨﻲ ﻣﻦ ﻭاﻟﺪﻱ اﻟﻤﺠﺪ ﻭاﻟﺸﺮﻑ
ﻓﻬﺬا ﻣﺮﺑﻲ اﻟﺮﻭﺡ ﻭاﻟﺮﻭﺡ ﺟﻮﻫﺮ **** ﻭﺫاﻙ ﻣﺮﺑﻲ اﻟﺠﺴﻢ ﻭاﻟﺠﺴﻢ ﻛﺎﻟﺼﺪﻑ
وكما رتب الشارع حقوقا للآباء على الأبناء، رتب حقوقا للمعلمين على التلاميذ من توقيرهم واحترامهم والاعتراف بفضلهم والدعاء له، لأنهم كانوا سببا في تعليمه علوم الآخرة وعلوم الدنيا بها هي مطية للآخرة.
قال الشيخ محمد بن محمد سالم المجلسي رحمه الله: «اعلم أن من آداب التلميذ مع الشيخ أن يعظمه، ولا يزال ناظرا إليه بعين الإجلال، ويعتقد فيه درجة الكمال، ويتواضع له ويخضع بين يديه ويهابه غاية الهيبة، ويعلم أن خضوعه له عز، وذلته بين يديه رفعة،…وأن يعرف له حقه، ويشكر صنيعه، والمنة التي أجرى الله تعالى على يديه، ويعتقد أنه أبوه بالولادة الروحانية وهي أفضل من الطبيعية، فلا يزال مثنيا عليه ومستغفرا له، وداعيا له ومسديا إليه غاية بما أمكنه من الإحسان مالا وخدمة.
ويقال إن الإمام الشافعي قيل له في ذلك؟ فقال: أهين لهم نفسي فهم يكرمونها … ولمن تُكْرَم النفسُ التي لا تهينها»[«لوامع الدرر في هتك استار المختصر» (4/ 123)]
قال المناوي في فيض القدير: “ﻭﻳﻮﻗﺮﻭﻩ ﻛﻤﺎ ﻳﻮﻗﺮﻭا ﺁﺑﺎءﻫﻢ”، وأحسن قول الناظم:
وقر مشايخَ أهلِ العلم قاطبةً **** حتى تُوقَّرَ إن أفضى بك الكبرُ
واخدم أكابرهم حتى تنال به **** مثلًا بمثلٍ إذا ما شارف العُمُرُ
وتوقير العالم سنة ماضية: إذ أن توقير العالم وهيبته من أخلاق السابقين، وسنه ماضية في الأولين.
قال طاووس بن كيسان: “إن من السنة أن توقر العالم”.
وقال أيضاً: “من السُّنَّة أن يُوقر أربعة: العالم، وذو الشَّيبة، والسلطان، والوَالدِ”.
وقال الشعبي: “صلى زيد بن ثابت رضي الله عنه على جنازة ثم قربت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال له زيد: “خَلِّ عنك يا ابن عم رسول الله، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هَكذا يفعلُ بالعُلماء”.
وكذلك أيضا من الحقوق أن يبروهم فإن العلم رحم بين أهله، وقال في «الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام» (ص198): تحدث النووي رحمه الله عن أهمية تراجم العلماء، فقال رحمه الله: ” إنهم أئمتنا وأسلافنا، كالوالدين لنا “.
وقال في ” المجموع ” وهو يترجم الإمام أبا العباس بنَ سُريج:” وهو أحد أجدادنا في سلسلة الفقه “.
فبين العالم والمتعلم أبوة دينية، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وفي قراءة أبي: ” وهو أب لهم”.
وأن يعترفوا بفضلهم، لأن هذا من الأخلاق والآداب السامية التي جاء بها ديننا الحنيف، قال المختار السوسي في «سوس العالمة» (ص5): «والاعتراف من التلميذ لتأثير أستاذه من أدنى واجبات الأساتذة على التلامذة».
وقال ابن جبرين في شرحه على “عمدة الأحكام”: «وهذا يدل على أن الإنسان عليه أن يعترف لصاحب الفضل بفضله الذي امتن به عليه، …وأما في الإحسان الذي هو نفع ديني كالفائدة والمعرفة ونحو ذلك فإن عليك -أيضاً- ألا تنكر فضله عليك، بل تدعو له على ذلك، وفي ذلك يقول بعضهم:
إذا أفادك إنسان بفائدة **** من العلوم فأدمن شكره أبدا
وقل فلان جزاه الله صالحة **** أفادنيها وألق الكبر والحسدا»
فإن «نسبة الفائدة إلى مفيدها من الصدق في العلم وشكره، والسكوت عن ذلك من الكذب في العلم وكفره، ولا ينافيه خبر “انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى مَنْ قال”»«رحلة الشتاء والصيف» (ص122).
جاء في «موسوعة الأخلاق – الخراز» (ص330): «ومن الأدب نسبه الفضل لأهل الفضل، والعاقل من لا يرجع الخير له إن كان الأمر لغيره ويزعم أن ذلك من جهده وعلمه ومن فضله وحده، ولم يشاركه أحد في هذه الفائدة، وهذا دليل وعلامة على محق بركة العلم ونوع من الكبر، وهو أحد المتعالمين.
ويشبه صنيعهم قول الله تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188] أي يحبون أن يوصفوا بالفضل وهم خلاف ذلك، ومن تزين بلباس غيره فكأنه لابس ثوب زور.
…والعاقل من اعترف بفضل من دله على فائدة، لا سيما شيخه ومعلمه، فطالب العلم يعترف بفضل معلمه في حضوره وغيبته، ويحمد جميل صنعه، ويثني عليه فإن هذا من الشكر، ومن كتم ذلك فقد كفر نعمة شيخه عليه.»
وفي الحديث الشريف «من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تستطيعوا فكافئوه بالدعاء».
فالدعاء لأهل العلم الذين أخذ عنهم هو سنة مُتَّبَعَة تواضعت عليها الطباع السليمة، وهذا أمر مشاهد ومعاين في كتب أهل العلم قاطبة، فلا تخلوا من دعاء وذكر لأهل الفضل في إخراج ذلك الكتاب، وروى البيهقي رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صُنع إليه معروفًا فليكافئه، فإن لم يستطع فليذكره، فمن ذكره فقد شكره».
ونختم هذه الورقة بمظهر جليل من مظاهر توقير العلماء، للإمام الشافعي رضي الله عنه في شدة توقيره للإمام مالك رضي الله عنه، فعن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول -وذُكر له أصحاب الحديث، وأنهم لا يستعملون الأدب- فقال: ” ما أعلم أني أخذت شيئًا من الحديث ولا القرآن أو النحو أو غير ذلك من الأشياء، مما كنت أستفيد؛ إلا استعملتُ فيه الأدب، وكان ذلك طبعي إلى أن قدمت المدينة، فرأيت من مالك ما رأيت من هيبته وإجلاله العلم، فازددتُ من ذلك، حتى ربما كنت أكون في مجلسه، فأصفِّح الورقة تصفحًا رفيقًا هيبةً له لئلا يسمع وقعها “» انظر: “توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس” (ص:153).